أميركا وطالبان وصناعة الإرهاب!
د. محمد سيد أحمد
ليست المرة الأولى التي أكتب فيها عن صناعة الإرهاب التي تقوم بها الولايات المتحدة الأميركية، والتي تستثمر فيها منذ سنوات طويلة، فلم يعد هناك شك بأنّ أميركا هي صانعة الإرهاب الأولى في العالم فهي التي ترعى الجماعات الإرهابية التي تحصد أرواح البشر الأبرياء دون ذنب فوق كوكب المعمورة، ورغم ذلك تحاول أن توهم العالم من خلال صناعتها الأخرى المسيطرة عليها وهي الإعلام بأنها بريئة من صناعتها للإرهاب، وأنه صناعة عربية – إسلامية، وكانت البداية أثناء الحرب الباردة مع الاتحاد السوفياتي السابق بدعوى أنها دولة كافرة وتحاول نشر الإلحاد في العالم وعلى المسلمين أن يقوموا بمحاربتها، وبالفعل تمّ تشجيع بعض الحكام العرب لإرسال مواطنيهم للذهاب إلى أفغانستان للجهاد ضدّ الكفر والإلحاد بدعم من الولايات المتحدة التي أمدّت هؤلاء المجاهدين المضحوك عليهم بالمال والسلاح، وانتهت المعركة بتفكيك الاتحاد السوفياتي عام 1990، وعاد المجاهدون من أفغانستان إلى بلادهم العربية والإسلامية ليمارسوا العنف والإرهاب داخل هذه المجتمعات.
ومع انتهاء الحرب الباردة مع الاتحاد السوفياتي أصبحت أفغانستان ساحة للاقتتال الأهلي، وفي عام 1994 تأسست حركة طالبان (كحركة قومية – إسلامية مسلحة، تسعى لتطبيق الشريعة الإسلامية) على يد الملا محمد عمر وبرزت كأحد أهمّ الفصائل في الحرب الأهلية الأفغانية، وكان معظم منتسبيها من الطلبة في مناطق البشتون شرق وجنوب أفغانستان الذين تلقوا تعليمهم في مدارس إسلامية تقليدية، وقاتلوا خلال فترة الحرب السوفيتية – الأفغانية، وتمكن الملا محمد عمر من نشر دعوة الحركة في معظم أفغانستان، حتى سيطر على العاصمة كابل في أيلول/ سبتمبر 1996 وأعلن عن قيام الإمارة الإسلامية في أفغانستان وتمّ نقل العاصمة إلى قندهار، وظلوا في الحكم حتى عام 2001 عندما قرّرت الولايات المتحدة الأميركية غزو أفغانستان للقضاء على تنظيم القاعدة صنيعتها المتحالف مع حركة طالبان.
وهنا يطرح السؤال هل تركت الولايات المتحدة الساحة الأفغانية بعد انتهاء الحرب الباردة وسقوط الاتحاد السوفياتي؟ والإجابة بالطبع لا فهي من صنعت حركة طالبان ومكّنتها من الوصول للحكم لتكون خنجر في الخاصرة الرخوة لروسيا بعد تفكك الاتحاد السوفياتي، وهي من صنعت تنظيم القاعدة الذي أثار الرعب في العالم على مدى عقدين من الزمان تحوّل على أثرها أسامة بن لادن الثري السعودي إلى أسطورة بواسطة الآلة الإعلامية الأميركية الجبارة حيث نسب إليه وتنظيمه أكبر حادثة إرهابية في العالم وهي تفجير برجي التجارة العالمية في الولايات المتحدة ذاتها في 11 أيلول/ سبتمبر 2001 وباستخدام أحدث أساليب التكنولوجيا الحربية من صواريخ وطائرات، وهو ما أثار العديد من علامات الاستفهام حول قوة وقدرة التنظيم الذي استطاع أن يخترق أكبر منظومة أمنية في العالم، على الرغم من أنّ قادته وكما صوّر لنا الإعلام الأميركي ذاته يعيشون في الجبال والكهوف في أفغانستان، وقامت أميركا بإعلان الحرب على حركة طالبان وتنظيم القاعدة بدعوى أنهما المسؤولان عن الإرهاب في العالم ورغم ذلك توارت حركة طالبان وظلّ تنظيم القاعدة موجوداً ومتصدّراً للمشهد الإرهابي حول العالم، ويصدر يومياً بيانات يتمّ تداولها عبر الآلة الإعلامية الدولية أنه المسؤول عن كل تفجير يحدث هنا أو هناك.
ومع تفعيل وتسريع خطوات مشروع “الشرق الأوسط الجديد” الذي تسعى من خلاله الولايات المتحدة الأميركية إلى تفتيت وتقسيم المنطقة على أسس مذهبية وعرقية وطائفية، وهو ما يستلزم استخدام ورقة الجماعات الإرهابية لتكون عملية التقسيم والتفتيت من الداخل دون مواجهة مباشرة منها كما حدث في افغانستان والعراق، حيث استغلت موجات الغضب الشعبي داخل بعض البلدان العربية وقامت بسكب مزيد من الزيت فوق النيران المشتعلة مع الدفع بعناصر مدرّبة تابعة لها لتقود الشارع لصالحها، ثم قامت بدعم الجماعات الإرهابية بالداخل لتمكينها من تنفيذ مشروعها، وهنا اختفى تنظيم القاعدة من المشهد الإرهابي العالمي، وأختفى أيضاً من فوق المنابر الإعلامية التي كانت تقوم بالترويج له، وهو ما يعني أن الولايات المتحدة هي التي كانت ترعى هذا التنظيم وتروّج له وعندما انتهت مهمته اختفى من الوجود.
وبدأت الولايات المتحدة كعادتها بالاعتماد على القوى الإرهابية القديمة المتمثلة في التنظيم الدولي للإخوان المسلمين وعندما فشل هذا التنظيم في تنفيذ مخطط الولايات المتحدة التقسيمي والتفتيتي للمنطقة، قامت الولايات المتحدة الأميركية بصناعة عدد من التنظيمات الإرهابية الجديدة وأطلقت يدها بالمنطقة ودعمتها بالمال والسلاح، فسمعنا عن أنصار بيت المقدس في سيناء، وجبهة النصرة وجند الشام في سورية، لكن سرعان ما اختفت هذه التنظيمات سريعاً وقامت بمبايعة التنظيم الإرهابي الجديد والأسطورة التي صنعتها الولايات المتحدة وروّجت لها عبر آلتها الإعلامية الجبارة وهو تنظيم الدولة الإسلامية بالعراق والشام والذي عرف إعلامياً بتنظيم داعش والذي أصبح بعبعاً جديداً تخيف به أميركا العالم أجمع.
وبعد فشل مشروع الشرق الأوسط الجديد وتغيير الإدارة الأميركية وصعود جو بايدن للحكم، قرّرت الولايات المتحدة الأميركية الانسحاب من أفغانستان، لكن هذا الانسحاب لا يمكن أن يكون دون تحقيق مكاسب في إطار الصراع الجديد مع روسيا والصين المنافسين الجديدين للولايات المتحدة على الساحة الدولية وإيران المتحدي لها والخارج عن طاعتها في منطقة الشرق الأوسط، لذلك جاء الانسحاب بعد اتفاق مع حركة طالبان تم في قطر ولاقى ترحيباً تركيا، لذلك لا عجب من عودة سيطرة طالبان مرة أخرى للسيطرة على الحكم في أفغانستان وبسهولة ويسر ودون إراقة دماء، تزامناً مع الانسحاب الأميركي.
وبالطبع الولايات المتحدة ترغب في ذلك لتهديد أمن واستقرار أعدائها (روسيا والصين وإيران) الذين يشتركون في حدود مشتركة مع أفغانستان، وما يؤكد رعاية الولايات المتحدة للإرهاب هو عدم قضائها على حركة طالبان لمدة عشرين عاماً احتلت خلالها أفغانستان، حيث احتفظت بها كورقة يمكن استثمارها في أي وقت، لكن ردود فعل خصوم الأميركان وترحيبهم بطالبان وعدم غلق سفاراتهم وسحب بعثاتهم الدبلوماسية قد يربك المشهد في ظل تعالي أصوات الجمهوريين خصوم جو بايدن بالداخل الأميركي، لكن رغم عبثية المشهد إلا أننا لا يمكن تفسير ما يحدث بعيدا عن الرعاية الأميركية للإرهاب ومحاولة إعطاء التنظيمات الإرهابية قبلة الحياة بعد الهزائم المتتالية في مصر وسورية والعراق وتونس، اللهم بلغت اللهم فاشهد.