حروب التاريخ والجغرافيا… الهزيمة والخسران!
} فاديا مطر
لم يكد إعلان الإدارة الأميركية يظهر للعلن بالانسحاب من أفغانستان حتى بدأت فصائل الجيش الأميركي تلتقط أنفاسها السريعة في قواعدها المنتشرة هناك، فالأخيرة القادمة منذ العام 2001 بعد أحداث الحادي عشر من أيلول لما يُسمّى مكافحة الإرهاب واجتثاث القاعدة بدأت مراوحة الخروج العلني بعد خسارة الهدفين معاً وخسران إضافي يفوق ما صرّحت به تلك الإدارات الأميركية أصلاً، وذلك لما أوردته بعض الصحف الأميركية التي واكبت إعلان الانسحاب من أفغانستان، فواشنطن التي أمضت عقدين من الحرب في بلد لم تحقق فيه الشيء المستحقّ من أهدافها تنظر لمسار الخروج من أفغانستان بريبة المهزوم وهو ما يترافق من تصريحات الخوف من انسحاب غير آمن، في ما يتزامن مع إنسحاب حليفها الأساسي من مجموعة الأطلسي التي أعلنت عن إيقاف عملياتها القتالية هناك منذ العام ٢٠١٧ لتُبقي على عملياتها الإستخباراتية نشطة على باقي المدة التي سبقت الإنسحاب، فماذا تجني إدارة بايدن من الإنسحاب؟ وماذا رسمت في توجهاتها المقبلة بعد الإنسحاب؟
فالجَنى المعلن من قِبل الإدارة الأميركية لم يتجاوز إعلان أنّ الجيش الأميركي قد «حقق أهدافه» هناك، وما خفي أعظم لجهة خسارته في جغرافيا بعيدة عن الحدود في حرب لم تأخذ يوماً شكلاً لأيّ نصر يسمى، أو حتى لإعلان هدف محدد في التكتيك او الإستراتيجيا العسكرية أو السياسية سوى كونه إعلاناً انتخابياً لاحق الدفع يمكن توظيفه في مرحلة ما بعد قتل أكثر من ١٠٠ ألف مدني أفغاني على مر عقدين، وأما ما ترسمه واشنطن في الخطوة القادمة لخلاص العقدين فيكمن في إعادة رسم خارطة جديدة تأخد الأهمّ من المهمّ في إنتشار الجيش الأميركي خارج الحدود، حيث تعتبر واشنطن أنّ الدعم العسكري في أوكرانيا القريبة من روسيا يحمل الأهمّ في المُهمّ لجهة التسخين القائم هناك وما يحمل الانسحاب العسكري من أفغانستان من قدرات عسكرية كبيرة يمكن لها تعزيز موقف أوكرانيا في عسكرة الحدود الشرقية كجزء يتحضّر ليكون من الناتو القادم تجاه حدود روسيا، أو في بقعة أسخن من حدود أوكرانيا والبحر الأسود ومضيق البوسفور الاستراتيجي في خليج العرب الذي يشهد تنامياً دراماتيكياً لأعمال شبه عسكرية تتوسع رقعتها ويحتاج الحلفاء في اليمن فيها لدعم عسكري يدعم الحلفاء الإرهابيين هناك على وقع الخسارات المتراكمة في أرض اليمن وتوسع الضربات اليمنية القوية على العمق السعودي والمواقع الإستراتيجية فيه وما يمكن أن يكون الخليج حاضنة جديدة لكميات السلاح الكبيرة الآتية من كابول، فيما لم تخرج الحدود العراقية السورية من ذات الخارطة الجديدة في انسحاب واشنطن القادم ومتغيرات التمركز التي قد تخطو بواشنطن إلى أرض الإحتلال التي لم تحرك فيها منذ ثلاثة أعوام عمليات عسكرية تجعل من تلك المنطقة عبئاً إضافياً لتمركز عسكرة واشنطن والناتو هناك بالقرب من حقول الطاقة السورية والمخازن العراقية في أربيل وكركوك وغيرها من مناطق السيطرة الأميركية وحلفائها من إرهابيي تنظيم قسد وداعش ومخلفات القاعدة التي ادّعت واشنطن محاربتها في أفغانستان منذ عقدين، وليس بحر الصين الجنوبي بأقلّ أهمية من الشرق الروسي والشرق الأوسط باللغة العسكرية، وما يحضّر هناك يبدو مقلقاً أكثر من أي وقت مضى بالنسبة لتواجد واشنطن خارج حدودها، فالتغيير العسكري لمواقع الجيش الأميركي بحجة التاريخ في سياق الجغرافيا المتجددة يكمن في نقلة نوعية أبدت موسكو قلقها الجدي منه في تعقيد خطة الإنسحاب من أفغانستان تجاه تجدد العنف هناك وعودة الصراع المسلح، وهو تخوف ليس بقليل الأهمية لدى موسكو من محاولة واشنطن تصعيد الإستنزاف في وسط آسيا والتي تربط كابل فيها عقدة طرق عسكرية وإقتصادية هامة في طريق بكين وطهران وموسكو في الشرق الآسيوي والأهمية الكبرى لكون تعقيد الإنسحاب يمكن جرّه على طريق الضغط الثلاثي في آسيا الوسطى واتصاله بزمن عقدين خارج الحدود، فهل ستكون مهلة العقدين مطبقة في حرب ٢٠٠٣ على العراق؟
وهو المطلب الأكبر الذي أقرّه البرلمان العراقي وجدّد جدّيته الرئيس العراقي برهم صالح في اتصال مع القيادة الإيرانية ليكون ربما نهاية عقدين للجيش الأميركي في حرب العراق خطوة تحضيرية ثانية لانسحاب أميركي يكمّل خطى أفغانستان، حيث تُعدّ الحرب على العراق من أخطر حروب واشنطن التي قاربت العقدين في ما شهدته من خسارات بالجملة دون تحقيق لأهدافها التي أعلنتها واشنطن منذ ما يقارب العشرين سنة، بل استعملت فيها واشنطن بقية الخطوات التي بدأتها في الحرب على سورية ورعاية التنظيمات الإرهابية واستحداث تنظيم داعش ومشتقاته والفصل الديموغرافي والفيدرالي في شرق سورية وتربية منظمات وميليشيات يمكن إستخدامها في تاريخ قادم وجغرافيا أقدم، وليست زيادة الضغط على طهران ودمشق وبيروت بأقلّ أهمية من سياسة تغيير المواقع في الخريطة العسكرية الجديدة، فاللعبة «الإسرائيلية» في الداخل الأميركي لا يمكن نكرانها ولا يمكن تجاهلها في السياق العسكري ذاته، والغاية الصهيونية في ترتيب أوراق تحمي الفشل الداخلي «الإسرائيلي» وما سيحدثه من عواقب محتملة فيما إذا فشل الإتفاق النووي مع إيران بعد خطوة التخصيب بنسبة ٦٠% وما سبقه من هجوم إرهابي على موقع نطنز في ١٢ نيسان وما تحمله خطوة استهداف القائد سليماني ورفاقه حتى الآن في الإهتمام الإيراني قد تجعل من منطقة العراق – سورية من أهمّ مناطق التراجع من أفغانستان إليها في التوقعات العسكرية لما للمنطقة من أهمية استراتيجية وجيوبولوتيكية بالنسبة لواشنطن وتل أبيب في تلك المنطقة المحتدمة، فلا أوراق ضغط على إيران قد حملت نفعاً حتى الآن سوى العقوبات الاقتصادية التي وصلت إلى ما يزيد عن ١٥٠٠ عقوبة، ولا أوراق ضغط على سورية في المناطق المتبقية سوى الحرب الإقتصادية التي تعصف بأسواقها، ولا ورقة ضغط على اليمن سوى الحصار المستمر ولا أوراق ضغط إستراتيجية على روسيا والصين سوى العقوبات وتسخين بعض الأجزاء الساخنة أصلاً من تايوان وبحر الصين الجنوبي إلى أوكرانيا إلى القطب الشمالي، فيما يتحضر التركي والخليجي ليكون روقة متقدمة لتمركز واشنطن المقبل في تخفيض حرارة شرق المتوسط مع اليونان ومصر، والإعلان السعودي عن مفاوضات مستفيضة في حال عودة الإتفاق النووي إلى مساره وهو بمثابة توقع متقدّم لوجهة السلاح العسكري الأميركي القادم من الشرق بغطاء التخفيضات المتوترة، فلا حرب تسلح جديدة قد تنفع واشنطن أهمّ من الجمع ما بين زيادة التواجد العسكري في مناطق قد تجعل التعسكر الأميركي متقدماً، وتجعل أوراقه ضاغطة أكثر في مقابل القلق الروسي الحذر والتنامي الإيراني والتراجع العسكري السعودي الخليجي في اليمن والسياسي في الداخل الصهيوني ليكون التحّفظ سيد الوقف في التاريخ والجغرافيا الآتيين ولهجة الخسارة المقبلة.