الإمام موسى الصدر وحوار الحضارات
} د. علي سيّد
انطلاقاً من فهمه العميق والواضح للإسلام، حمل الإمام موسى الصدر مشروعاً ثقافياً تميّز بالإنفتاح على الآخر ومحاورته، وبالاهتمام بالإنسان أولاً وأخيراً. فكان رمزاً للحكمة والحوار انسجاماً مع الآية الكريمة }لا إكراه في الدين{ (البقرة،256)، وإيماناً منه بأن الحوار بين بني البشر هو أفضل السبل لتقريب الشعوب والنهوض بكرامة الإنسان، دون تمييز بسبب الدين أو العرق أو الثقافة. وتيمّناً بقوله تعالى: }يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم{ (الحجرات 13). إذ إن هذه الآية تؤسس لعلاقات بين الأمم والحضارات على قاعدة التعارف (لتعارفوا) وليس على قاعدة النزاع والصدام والإلغاء.
وقد عبّر الإمام الصدر عن رأيه هذا في مناسبات عديدة داخل لبنان في اطار الحوار الإسلامي ـ المسيحي، وخارج لبنان من خلال المقابلات والمؤتمرات الصحافية التي كان يعقدها ومنها مؤتمر في المانيا عام 1970 حيث أعلن إيمانه بالتفاعل والتكامل بين الشرق والغرب.
فالعامل الثقافي والحضاري، إذن، يلعب دوراً مهماً في العلاقات الدولية والإنسانية. والحضارة باعتبارها أرقى أشكال التعبير عن الهوية سيكون لها الدور الفاعل في صياغة العلاقات الدولية على قاعدة الحوار والتعاون.
إن رؤية الإمام الصدر هذه تختلف اختلافاً كلياً عن رؤية الكاتب الأميركي صامويل هنتغنتون في مؤلفه «صِدام الحضارات» كما تتعارض في مضمونها مع أطروحة الأميركي من أصل ياباني، فرنسيس فوكوياما، الذي عبّر عنها في كتابه «نهاية التاريخ والإنسان الأخير».
فالأول يبشر بأنّ الصراع في العالم الجديد (بعد إنتهاء الحرب الباردة) لن يكون ايديولوجياً أو اقتصادياً، بل سيكون ثقافياً. وتتحدّد الهوية الثقافية عنده بالتضادّ مع الآخرين، «وأن صراعات خطوط التقسيم تحدث بين دول الجوار المنتمية الى حضارات مختلفة، وبين جماعات تنتمي الى حضارات مختلفة داخل دولة ما». ويعتبر أنّ صراع القرن العشرين بين الديمقراطية الليبرالية والماركسية اللينينة ليس سوى ظاهرة سطحية وزائلة، إذا ما قورن بعلاقة الصراع المستمر والعميق بين الإسلام والمسيحية.
إنّ نظرية صدام الحضارات والثقافات هذه ليست في الواقع سوى تغطية لحقيقة الصراع على المصالح الاقتصادية والسياسية. وهي وسيلة لحشد التأييد من خلال إثارة العصبيات الثقافية والدينية.
أما فوكوياما الذي يتحدث عن نهاية التاريخ مع نهاية الحرب الباردة والنظم الشمولية، يبشّر بأنّ المستقبل سيكون للهيمنة الغربية حيث تسود الليبرالية وقيم الديمقراطية الغربية بما فيها العولمة ونظام السوق. والجدير ذكره هنا أنّ تداعيات العولمة تصبّ في طاحونة تأجيج النزاعات والانقسامات الطائفية والثقافية. إذ إنّ اختراق الشركات العابرة سيادات الدول تضعف كيانات هذه الدول التي تصبح عاجزة عن تأمين الأمن والاستقرار وأسباب العيش للمواطن، ما يدفع به للتفتيش عن ملاذ أو ملجأ آخر يحميه فيلجأ الى طائفته أو مذهبه أو عرقه..
إنّ الإمام الصدر بنظرته الثاقبة استشرف باكراً خطورة صدام الحضارات والأديان على بنية المجتمعات المحليّة كما على مسيرة السلم والأمن الدوليين، وبالتالي على بقاء الحضارة الإنسانية واستمرارها. فوجد بالحوار والتعايش الإسلامي المسيحي في لبنان تجربة غنيّة للإنسانية جمعاء، وإن نجاح هذه الصيغة والتجربة يشكل ضمانة لاستمرار الحوار والتعايش داخل الأمة العربية والإسلامية، كما يفتح الباب واسعاً للحوار بين الإسلام والغرب.
وقد أدرك الامام الصدر، في نفس الوقت، خطورة المشروع الصهيوني للهيمنة في الشرق الأوسط، هذا المشروع الذي يطال العمق الثقافي والحضاري لأمتنا ذات التراث الإنساني الضخم، فأسّس ثقافة شعبية مقاومة لكلّ أشكال الإحتلال والغزو والسيطرة.
لقد تحدث الإمام الصدر عن الحضارة الإنسانية والدينية والإسلامية والأوروبية والحديثة والغربية والشيوعية والمادية والمعاصرة والعالمية في عدة مناسبات وكان من أوائل الذين سلّطوا الضوء على الحضارة وتأثيرها في المجتمعات والشعوب، فقد آمن بأنّ «لبنان هو الأساس في بناء الحضارة الإنسانية الحقة». وبأنّ النموذج اللبناني والتواصل والتفاعل بين كافة الحضارات هو السبيل الوحيد لرقيّ الإنسان، وأنّ الله اختار لبنان ليلعب هذا الدور حين قال «إنّ منطقتنا تشكل القاعدة الأساسية لحضارة القرن المقبل ونواتها الحوار العربي ـ الأوروبي». فالإمام الصدر أول من آمن بأنّ الحضارات المختلفة يجب أن تتحاور لتغني البشرية والإنسانية جمعاء. ولطالما كان يقول بأنه ليس مع العنف المطلق ولا مع الرفق المطلق بل مع الحقّ المطلق، ولكي نصل للحق ولكلمة سواء يجب أن نتحاور وننبذ الخلافات والبغضاء. فالتجربة اللبنانية إذا سقطت سوف تظلم الحضارة الإنسانية، ولقد أسمع الجميع بأن «القرن المقبل (أيّ 21) يجب أن يحتوي على أفضل الصيغ لاحترام كلّ الحضارات والثقافات ولخلق التفاعل التام والمتكافئ بينها». وعندما قام برحلة في عوالم الثقافة، وسئل عن رحلته إلى أوروبا لم يكن لديه أيّ حرج أو عقدة نقص ليجيب «التعرّف على الحضارات الجديدة، والوقوف على مجالات التقدم في تلك الديار لأنها مستقبل بلادي، ومماشاة العصر الذي نعيشه». فالاستفادة من تجارب الآخرين، والاعتراف بالتقدّم الحضاري للدول الأوروبية والوقوف على تطوّر هذه المؤسسات أخذ حيّزاً كبيراً من رحلات ونشاطات الإمام.
فهذه الألوان والمجموعات من الممكن أن تستعمل وتستغلّ للعزل والانفصال (هنتنغتون)، ومن الممكن أن تستغلّ كمنطلقات للتعاون، لأنّ كلّ فئة عندها تجارب وأفكار كما يقول الإمام «ممكن أن تكون وسيلة للتلاقي والتعارف ولتبادل المعلومات والتجارب ومن الممكن أن تسهل مهمة اللبناني الرسالية». وبما أنّ الإنسان كان شغله الشاغل وكان يعتبر أنّ ثروة لبنان في إنسانه فقد دعا إلى «تقييم الحضارة الحديثة على ضوء نتائجها على الصعيد الإنساني».