لحوار الاستراتيجي بين العراق الولايات المتحدة والأميركية
} د. محمد حسن سعد
أفرز الحوار الاستراتيجي ما بين العراق والولايات المتحدة الأميركية اتفاقيتين الأولى: هي اتفاقية انسحاب القوات الأميركية المعروفة بـsofa، والتي انتهت مع نهاية عام ٢٠١١ قانونياً وعملياً، والثانية: اتفاقية الإطار الاستراتيجي التي يختلف أطرافها في تفسيراتها والتزاماتها، فضلاً عن الكثير من الغموض والالتباس التي يعتري بنودها، وتضارب وجهات النظر حول المدة القانونية لها، حيث أنّ هذه الاتفاقية بقيت حبراً على ورق دون أيّ مفاعيل عملية، لذا يحتاج كلا الطرفين لإعادة النظر فيها، أو الاتفاق على إطار واضح يرسي نظرياً وعملياً اتفاقية جديدة واضحة لا لبس فيها، بعيداً عن التفسيرات المتعددة، لا سيما أنّ العراق والمنطقة يعيشان تحوّلات وتغييرات جيوسياسية كبيرة، من الواضح أنها ستترك تداعياتها الثقيلة على كامل الإقليم لسنوات طويلة.
أقرّت إدارة جورج دبليو بوش بوجود مشكلة كبرى في العراق، وبأنّ الوضع فيه سيّئ للغاية، بعد أن كانت تدّعي لسنوات عدة، أن الأمور تسير سيراً حسناً. سبق إقرار إدارة بوش هذا قيام جنرالات متقاعدين بإنتقاد سياسته في العراق صراحة، محذرين من عواقبها.
وبُعيْد رحيل إدارة الرئيس الأميركي الأسبق جورج دبليو بوش عكفت الإدارات الأميركية المتعاقبة على إعادة تقييم استراتيجيتها في العراق بفعل تزايد المأزق الأميركي في العراق، فرأى الرئيس أوباما أنّ احتلال بلاده للعراق كان خطأ فادحاً لا بدّ من التراجع عنه، واعترف بوهمية الذرائع التي سيقت لتبرير هذا الغزو المكلف. ومن ثم أعلن في خطابه، في كامب ليجوين وهي قاعدة لمشاة البحرية الأميركية يوم الجمعة الواقع فيه 28/2/2009، عن جدول زمني متدرّج لسحب الجزء الأكبر من القوات الأميركية في العراق، وانتهاء مهامها القتالية مع نهاية شهر أغسطس/ آب 2010. ومن المتوقع أن يبقى ما بين 35.000 إلى 50.000 جندي في فترة انتقالية للقيام بمهام تدريب للجيش العراقي، قبل أن تغادر جميع القوات بنهاية عام 2011، طبقاً للموعد المقرّر في الاتفاقية الأمنية المبرمة مع العراق.
وبُعيْد وصول الرئيس دونالد ترامب إلى البيت الابيض، أعلن أنّ الوجود العسكري الأميركي في العراق والشرق الأوسط كان أسوأ خطأ في تاريخ الولايات المتحدة، وأضاف ترامب خلال مؤتمر صحافي في البيت الأبيض أنّ بلاده ماضية في سحب قواتها من العراق رغم معارضة كثيرين. موقف ترامب أثاره عملياً الوزير بومبيو في إعلانه في 7 نيسان/ أبريل 2020، بأنّ الولايات المتحدة ستجري حواراً استراتيجياً مع الحكومة العراقية في الحاجة إلى مثل هذه العلاقة الجديدة منتصف حزيران/ يونيو 2020. حيث ورد في إعلانه أنّ:
«مع اندلاع جائحة كوفيد 19 العالمية، وانهيار عائدات النفط الذي يهدّد الاقتصاد العراقي، فإنه من المهمّ أن تعمل حكومتانا معاً لوقف حدوث تغيّر عكسي في المكاسب التي حققناها من خلال جهودنا لهزيمة تنظيم داعش وتحقيق الاستقرار في البلاد. وستكون جميع القضايا الاستراتيجية بين بلدينا مطروحة على جدول الأعمال، بما في ذلك الوجود المستقبلي لقوات الولايات المتحدة في ذلك البلد، وأفضل السبل لدعم عراقٍ مستقلٍّ يتمتع بالسيادة».
«وأوضح الوزير بومبيو أنّ الولايات المتحدة ستضطر إلى إعادة تقييم استراتيجيتها في العراق، من حيث الضغط المتزايد من إيران وقوات الحشد الشعبي العراقية على وجود القوات الأميركية في العراق، وكذلك من حيث تأثير الفيروس التاجي على الاقتصاد العراقي، وعدم وجود وحدة سياسية واضحة في العراق. وصرّح أنّ الولايات المتحدة ستدعم أيّ نظام عراقي يبتعد عن النموذج الطائفي القديم الذي انتهى به المطاف إلى الإرهاب والفساد».
عقب تسلمه مقاليد الرئاسة الأميركية أعلن جو بايدن أن الولايات المتحدة ستنهي مهمتها القتالية في العراق مع حلول نهاية العام الحالي، مع استمرار عدد من قواتها لتولي مهام تدريب الجيش العراقي وإمداده بالاستشارات العسكرية، مبدياً تطلعه إلى تعزيز الشراكة الاستراتيجية بين أميركا والعراق والعمل على دفع التعاون الثنائي قدُماً، من خلال متابعة جولات الحوار الاستراتيجي بين واشنطن وبغداد.
خلال الندوة الفصلية التي نظمها معهد الولايات المتحدة للسلام، ومقره واشنطن، قال السفير الأميركي لدى العراق، ماثيو تولر، إن لدى إدارة الرئيس الجديد جو بايدن، 4 أولويات في بلاد الرافدين، يرى مراقبون أنّ عقبات صعبة تعترض سبيلها.
وأوضح ماثيو أن الأولويات في المستقبل المنظور تشمل محاربة تنظيم داعش ومساعدة الحكومة العراقية في محاربة الفساد ومواجهة الأوضاع الاقتصادية الصعبة، إلى جانب مسألتي تحديات فيروس كورونا وأزمة التغيّر المناخي.
فما هي أهداف كل من الولايات المتحدة الأميركية والعراق من الحوار الاستراتيجي؟
1 ـ تعتقد الولايات المتحدة أنّ هذا الحوار سيؤمّن احتواء وإضعاف نفوذ وهيمنة طهران على بغداد، لما لها من تـأثير هائل على القوى السياسية العراقية، والفصائل العسكرية ذات المسميات المختلفة، لأنّ استمرار هذا التأثير سيقوي شوكة إيران في المنطقة، في الوقت الذي يعاني فيه حلفاء الولايات المتحدة في المنطقة من وهن مزمن في بناهم الدولتية ونظمهم السياسية، فضلا ًعن تورّط بعضهم في توترات في علاقاتهم الإقليمية، ومشاكل وأزمات وحروب، بات من الصعب على واشنطن تحمّل استمرار تأمين تغطية لها، نظراً لبشاعتها وانعدام أخلاقيات الحرب بالأساس فيها.
2 ـ تأمين وضمان سلامة التواجد العسكري والدبلوماسي الأميركي في العراق، وإعطائه بعداً حيوياً ومفصلياً، وربطه بالجوانب الأخرى وتحديداً منها الاقتصادية.
3 ـ تسوّق الولايات المتحدة لمقولة إنّ ضعف الدولة العراقية، وارتهانها لإيران سيؤدي إلى عودة داعش وأخواتها من التنظيمات الإرهابية المتطرفة، لذا انّ العلاقات الأمنية والعسكرية المشتركة الاستراتيجية ستخدم العراق، لا بل ستحصنه في مواجهة التطرف العابر للحدود، لذا يتوجب على بغداد الذهاب بعيداً في هذا الجانب من العلاقات، هذا عملياً سيتيح لواشنطن نفوذاً هائلاً، وخضوعاً كبيراً لكافة القطاعات العسكرية والأمنية العراقية للسيطرة العسكرية الأميركية، تدريباً وتجهيزاً وتسليحاً وتوجيهاً.
4 ـ تريد الولايات المتحدة من الحوار الاستراتيجي تحييد العراق، تمهيداً لانضمامه إلى ما يسمّى بمحور الاعتدال العربي، مقابل وعود اقتصادية وأمنية، في ظلّ معاناة العراق من الأوضاع الاقتصادية الصعبة والحالة الأمنية المتردية، هذا المحور الذي ينضمّ أعضاؤه تباعاً إلى مسار التسوية مع الكيان الصهيوني، وهذا يعني عملياً خروج العراق بما يشكل من ثقل وازن جيوساسي من محور المقاومة، وانتكاسة كبرى له على كافة المستويات، وهذا ما سيؤدي حكماً إلى توتر في علاقات العراق الثنائية مع دول الجوار، وإبقاء بغداد متراساً متقدماً وميداناً وحلبة للصراع الإقليمي، الذي بالمناسبة تغذيه دول في المنطقة تمتلك الموارد والإمكانيات الكبيرة التي تستخدمها في صراعها مع العدو الجديد والبديل، اذ لم يعد الكيان الصهيوني هو العدو، إنه إيران، وهذا لا يخفى على أحد.
هذه بعض الأهداف الأميركية، لكن ماذا عن العراق وأهدافه من الحوار الاستراتيجي؟
1 ـ انّ الحوار الاستراتيجي مع الولايات المتحدة سيشكل فرصة مهمة ليحصل العراق على التزام أميركي بدعم التوصل إلى الاستقرار السياسي الداخلي، وفكّ الارتباط ما بين الصراع مع إيران والاستقرار، لأن لدى واشنطن أوراقاً عديدة تمكنها من زعزعة الوضع السياسي العراقي فضلاً عن الوضعين الأمني والاقتصادي الهشين، كونها تحتفظ بعلاقات مهمة (أيّ واشنطن) مع بعض الأطراف والمكونات العراقية، وإضافة إلى تواجدها العسكري الكبير في إقليم كردستان.
2 ـ تعتقد بغداد أنّ هذا الحوار سيؤدي حتماً إلى اعتراف أميركي واضح بوحدة العراق ونهاية المشاريع الأميركية الداعية إلى تقسيمه وتشظيه ووأد النزعات الانفصالية، عبر تشجيع ودعم أطراف على حساب أطراف أخرى، خاصة أنه يجب علينا أن نتذكر أن الرئيس الأميركي الحالي جو بايدن صاحب مشروع تقسيم العراق عندما كان رئيساً للجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ، عندما طرح في العام 2007 مشروع تقسيم العراق إلى 3 دول ـــ كانتونات ـــ على أساس طائفي، كحلّ لمشكلة الاحتقان السياسي بين مكوناته، وإنْ كان بايدن يتجنّب الحديث أو الخوض في هذا المشروع، هذا لا يسقطه من الأجندة غير المعلنة للرئيس بايدن في سياق توجهه لإعادة النظر في أوضاع المنطقة وتوازن القوى فيها.
3 ـ يشكل الحوار الاستراتيجي مع واشنطن قاعدة مهمة لتنظيم الوجود العسكري الأميركي في العراق، خاصة بعد قرار مجلس النواب العراقي في كانون الثاني/ يناير المنصرم بشأن انسحاب القوات الأجنبية ـــ الأميركية من العراق، بعيد اغتيال الجنرال قاسم سليماني والقائد المهندس أبو مهدي المهندس، وفي ظلّ انقسام سياسي بين الأفرقاء العراقيين حول طبيعة العلاقة مع الولايات المتحدة، الحوار سيفتح آفاق العلاقات للتوصل إلى اتفاقية جديدة واضحة متماسكة بديلة عن اتفاقية الإطار الاستراتيجي الملتبسة تراعى المصالح المتبادلة لكلّ الجانبين، علاقة متوازنة بعيداً عن سياسات الإملاء والإكراه والضغوط التي أثبتت فشلها وعدم جدواها، هذا الحوار يبعد العراق عن كونه أميركياً قاعدة لاستهداف دول الجوار التي تمانع السياسات الأميركية، كما أنه أيّ الحوار، سيؤمّن للعراق ضمانة أميركية بعدم التساهل مع التنظيمات الإرهابية كداعش وأخواتها التي تساهلت واشنطن في التصدّي لها، هذا إذا غضّينا النظر عن دور واشنطن الذي ظهر لنا وللجميع في الشهادات الرسمية الموثقة لعدد من أركان السياسة الأميركية، يقولون فيها بوضوح بأنهم من أوجد هذه الجماعات الإرهابية، ووظفها خدمة لسياساتهم.
4 ـ تريد بغداد من الحوار الاستراتيجي حيازة موقع مميّز لدى واشنطن، يوفر لها القدرة على لعب دور الوسيط الفاعل والمحترم والموثوق بين كلّ من طهران وواشنطن، لأنّ هذا الحوار الجدي سيريح الساحة العراقية إلى حدّ ما، خاصة إذا استطاع الجانب العراقي توفير المناخ الإيجابي لهذا الحوار، وهو قادر على ذلك. وتعتقد بغداد أنّ غياب هذا الحوار سيبقى الساحة العراقية مفتوحة لتبادل الرسائل الأميركية الإيرانية، وإذا تعذر إطلاق وتنظيم هكذا حوار، فتحييد للعراق على أقلّ تقدير من أيّ تصاعد للمواجهة بين كلا الطرفين، وتجنيب العراق أية عقوبات أميركية جديدة محتملة على إيران ومن يتعامل معها.
5 ـ يهدف الطرف العراقي، من خلال الحوار الاستراتيجي إلى توسيع مروحة المساعدات الأميركية للعراق لمواجهة التحديات الاقتصادية والأزمات التي تعاني منها مختلف القطاعات، والتي تفاقمت بفعل تفشي وباء كورونا، خاصة إذ ما علمنا أيضاً أنّ هناك 35 مليار دولار للعراق في البنك الفدرالي الأميركي، وبالتالي فإنّ الحكومة العراقية تعتقد أنّ الولايات المتحدة قد تذهب وكبادرة حسن نية في سياق جولات الحوار إلى الإفراج عن جزء أو قسم من هذه الأموال، ما سيمكن الحكومة العراقية من التخفيف من وطأة الأزمات التي تعصف بالواقع العراقي.
التعقيدات الداخلية العراقية كثيرة وهي تتزايد بفعل اقتراب موعد الانتخابات العامة، وهذا ما قد يؤدي إلى إعاقة التوصل نتائج مرضية في الحوار الاستراتيجي بين كلا الطرفين، وتصاعد حدة الاحتقان الداخلي في صفوف قوات الحشد الشعبي لتصفية الحسابات مع الأميركيين، والردّ على عملياتهم العسكرية الأخيرة، هذه التعقيدات حتماً ستكون لها آثارها على مخرجات الحوار الاستراتيجي المقبل في واشنطن.
كما لا ينبغي رفع سقف التوقّعات عالياً من الحوار الاستراتيجي، خاصة أنّ نموذج الدولة الفيدرالية الذي أرسته سلطة الاحتلال الأميركي في العراق والقابل للتحوّل إلى الفدرلة الطائفية في المستقبل، يمكن أن يكون نموذجاً في القضاء على الدولة المركزية القوية القادرة على إحياء فكرة التوازن الإقليمي، وعلينا أن لا ننسى أنّ واشنطن قد أدخلت المنطقة في هندسة التقسيم الناعم، كاتبة شهادة وفاة تقسيم سايكس بيكو لصالح خلق حالة من الفوضى في المنطقة، من خلال إثارتها لصراعات وأزمات لإعادة إنتاج كياناتها بمأساة أشدّ وطأة مما كانت عليه، حيث تقوم على أنقاض الفوضى دويلات إثنية لا تستقوي على الكيان الصهيوني، منصاعة للمصالح الاستراتيجية الأميركية. وبهذا يعاد تشكيل خريطة جديدة تزول بموجبها دول وتنشأ أخرى، وربما يطاح بدول كانت ذات ثقل في الإقليم لتتمّ ترقية دول أخرى بدلاً عنها.