العبرة الأفغانية… ونصيحة لـ «قسد»!؟
} نظام مارديني
لم يكن مشهداً عادياً ومثيراً للدهشة فقط، ذاك الذي تابعه العالم من مطار كابول خلال الأيام الماضية، وإنما كان باعثاً أيضاً على أشدّ أنواع القلق للمتعاونين مع الاحتلال الأميركي، فهو مشهد يكرّر ما حصل لدى هزيمة الأميركان في فيتنام ولكن بطريقة أبشع…
فمنذ عام 1975 وحتى اليوم اختزنت الذاكرة البشرية، ذلك المشهد الذي وثّق الهزيمة الأميركية النكراء في فيتنام، حين تصوّر الاحتلال الأميركي أنه باقٍ، لكن دخول مقاتلي الشعب الفيتنامي إلى سايغون، أجبر الولايات المتحدة الأميركية على إجلاء رعاياها ودبلوماسيّيها وعملائها بالطائرات السمتية، من على سطوح مباني سفارتهم في المدينة، بعد أن فاجأتها إرادة الشعب الفيتنامي.
في تشرين الثاني عام 2001، غادرت طالبان كابل تحت وقع ضربات التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة الأميركية.. وفي آب 2021 تدخل طالبان كابل، فتغادر طائرات التحالف المكان مع عملائها. فما الذي يوحيه هذا المشهد لـ «قسد» التي لعبت بالنار مع أهالي وسكان محافظة الحسكة ولم تستثن أحداً من المواطنين؟
لقد كان مشهداً مهيناً للعملاء والخونة في مطار كابول وهم يتراكضون للحصول على فرصة التعلق بالطائرات، قبل أن يُلقى القبض عليهم.
الآن، ضجيج داخل الجزيرة السورية ومحافظة الحسكة، وأسئلة عديدة تطرح عن مصير المتعاملين مع الاحتلال الأميركي في المحافظة بعد درس أفغانستان، وكيف يمكن حماية أهلنا هناك من دون إراقة دماء؟ وهل أخذت ميليشيا «قسد» العبرة من الانسحاب الأميركي من أفغانستان، وما كان مصير عملاء الاحتلال هناك، كيف تدافعوا للحاق بطائراتٍ تتهيأ للإقلاع. وحين لا يجدون فيها موطئاً لقدم كانوا لا يتردّدون في الاختباء تحت أجنحتها، أو يهرولون للإمساك بإحدى عجلاتها قبل أن تنطلق في الجو.. وهناك من سقط منها وهي على علو مرتفع…؟ لذا على «قسد» أن تتوقع أن يعقب الانسحاب الأميركي من أفغانستان انسحاب سريع وإنْ تدريجي من مناطق أخرى، كالعراق وسورية حتى نهاية العام، وعليها أن تتحسّس رقبتها جيداً، ولن ينفعها فتتاح دكان (ممثلية) في سويسرا وغير سويسرا، فالموسى تقترب من رقبتها رويداً رويداً.
كان على «قسد» أن تلتفت جيداً إلى تصريحات السفير الأميركي السابق في سورية روبرت فورد لصحف سعودية (الشرق الأوسط) وإماراتية (ذا ناشيونال)، في آب 2017، التي أكد فيها انتصار الرئيس بشار الأسد وعجز بلاده عن الصمود في سورية وطالب قواته بالانسحاب من هناك كما فعلت عام 1982 في بيروت، ولاحقاً في العراق…
ويذكر أن «فورد» في تصريحاته هذه رسم صورة قاتمة لمستقبل «أكراد سورية» وعلاقتهم مع بلاده. وقال إنّ الأكراد يرتكبون خطأً فظيعاً إنْ اعتقدوا أنّ الولايات المتحدة سوف تأتي لإنقاذهم، مضيفاً: «أعتقد أنّ ما نقوم به مع الأكراد ليس فقط غباءً سياسياً، بل غير أخلاقي. الأميركيون استخدموا الأكراد لسنوات طويلة خلال حكم صدام حسين. هل تعتقد أنّ الأميركيين سيعاملون «الاتحاد الديمقراطي» و»وحدات حماية الشعب» بشكل مختلف عن هنري كيسنجر مع الأكراد العراقيين (عندما تخلى عنهم). بصراحة، قال لي ذلك مسؤولون أميركيون… الأكراد السوريون يقومون بأكبر خطأ في وضع ثقتهم بالأميركيين».
إذاً هو مصطلح «استخدام الأكراد» خدمة للمشاريع الأميركية، إذ كان يُراد أن توضع خريطة سورية على الطاولة، وإلى حدّ بعيد استعادت خريطة الجنرال غورو ودوله الأربع، وكأنّ المشكلة كانت في الدولة الخامسة.. أيّ «كردستان سورية» التي قال عنها زعيم حزب العمال الكردستاني عبد الله أوجلان يوماً أن لا وجود لها على أرض الواقع… ويعتبر المراقبون أنّ قيام «كردستان السورية» بعد «كردستان العراقية/ الشكلية» كان سيجعل لعبة الدومينو تتواصل… فأي جزيرة، وروح الجزيرة السورية، حين أراد الاحتلال الأميركي تحويلها إلى شظايا عرقية وطائفية وعشائرية ومناطقية؟
الجزيرة السورية أمّنا التي تمشي على ضفاف القمح، وعلى ضفاف الغسق، وعلى ضفاف الآذان وأجراس الكنائس.. هذه الجزيرة كيف ينظر أهلها إلى المستقبل؟
لا تزال العشائر العربية وبقية النسيج السوري في الحسكة تعيش في حال هلع من تفكّك خارطة المحافظة، وهي لذلك تحرّكت سابقاً كما تتحرك حالياً وفي الأمر رسالة لمن يفهم، ولمنع الـ « PYD» من الاستمرار في الطرح العبثي إياه. إسقاط «الفيدرالية» على سورية بالبراشوت الأميركي.
الأميركيون الذين أذهلتهم سياسات «قسد» الراقصة، أو المتراقصة، يدركون جيداً خلفيات «الصحوة الانفصالية» التي هي من ابتكارهم.. وكان المُلا مصطفى البرزاني قال مرة من منفاه في موسكو «الأكراد مثل الجبال، إنْ كانوا غير ذلك تذروهم الرياح»…
الآن أيّ رياح تلعب، أو تلاعب، أكراد سورية، حتى أنهم تغاضوا عن نصيحة رئيس «الحزب الديمقراطي التقدمي» الكردي في سورية، الراحل «عبد الحميد درويش» الذي كان قد طالب قوات «قسد» بالانسحاب الفوري من المناطق الحدودية في شمال شرق سورية، وإفساح المجال لانتشار الجيش السوري على طول الشريط الحدودي مع تركيا، وذلك مع ظهور بوادر تركية لاجتياح المنطقة عسكرياً واحتلالها (راجع حوار درويش مع قناة سبوتنيك 9/10/ 2019)، غير أنّ «قسد» أصرّت على أوهامها البطولية وسرعان ما اندحرت من مناطق عفرين (محافظة حلب) كما من رأس العين (محافظة الحسكة) وسلمتها للاحتلال التركي، بدل تسليمها للجيش السوري… أيّ خيانة كانت تعشش في رأس قيادات «قسد»؟
من عقود والأكراد خاسرون في لعبة الأمم. لا شيء تغيّر. فهم لا يدرون أين هي الخطوط الحمر وأين ستمضي لعبة المصالح الدولية والإقليمية بهم في المستقبل..
الآن، أتوجه بكلّ مسؤولية إلى الأخوة في «قسد» بنصيحة أخذ العبر مما سبق في حديثي، والنظر إلى حدث أفغانستان بقراءة واعية واستخلاص الحلول التي تمنع أيّ مواجهة أهلية مستقبلاً عندما ينسحب الاحتلال وسينسحب على حين غفلة حتى من دون معرفتكم بذلك، لأنّ هذا ديدنهم وأسلوبهم في التعامل مع عملائهم بأن يتركوهم للريح مكشوفين أمام من تأذى من سلوكهم، وقد كان لافتاً لي ترحيب «قسد» الإيجابي بحديث الرئيس السوري بشار الأسد عن «اللامركزية» خلال كلمته أمام الحكومة الجديدة برئاسة حسين عرنوس (13/8/2021). إذ قال الأسد «بأن المجالس المحلية هي الأقدر على معرفة مصالحها المحلية وطرح الحلول وهذا يساعد السلطة المركزية والمسؤول المركزي على أن يبتعد عن الغرق في التفاصيل ويتجه باتجاه التفكير الاستراتيجي والمراقبة ووضع الخطط وإلى آخره من المهام الأساسية التي يُفترض أن يقوم بها».
وذكر الأسد «أنّ اللامركزية تحقق التنمية المتوازنة بين مختلف المناطق الأغنى والأفقر وبين الريف والمدينة».
وأذكر هنا أنني كنت قد كتبت مقالة «في أساس تنظيم المجتمع السوري: أفكار في الدستور واللامركزية»، ونشرتها في البناء في 31 آذار 2016، وقدمتُ خلالها بعض الأفكار في الدستور واللامركزية.
إنّ سورية، وخصوصاً منطقة الجزيرة أمام مفصل مهمّ الآن وعلينا جميعاً أن نكون مسؤولين أمام أجيالنا المقبلة وجعل استقرارها أكثر أماناً، وذلك لن يتمّ من دون الخطوة الأولى التي تتلخص بمفهوم المواطنة، ولكن لا يزال هذا المصطلح مرتبطاً بغياب عمقه القانوني والبنائي للدولة المدنية، الدولة التي ننتظر انتصارها النهائي في هذه الحرب الكونية عليها للبدء بورشة عمل لبناء المجتمع بعيداً من تأثيرات الحرب الداخلية.
وراء الضوء خوف من أن ينصح «الشيطان الأميركي» بالانتظار، ليس فقط لأنّ اللعبة أكبر من حزب الاتحاد الديمقراطي و»قسد» بكثير، بل لأنّ الأميركيين الذين دفعوا هذه الميليشيا إلى نقض «هدنات» عديدة لموسكو، يدركون وهم في طريقهم إلى الانسحاب من المنطقة سيتمنون لو يتجه الهلال السوري الخصيب إلى انفجار في «الخرائط».
الخوف من استمرار ميليشيا «قسد» في الجزيرة وريف دير الزور، أو في محافظة الحسكة، هو أن يتمّ استخدامها كأحصنة بلهاء في خدمة المشاريع الأميركية… وهدف استخدامهم هنا هو بغاية وضع أهلنا في تلك المناطق على مقصلة الذبح «الأهلي»، ولعلّ ما قامت به هذه الميليشيا من جرائم واعتداءات على السكان في تلك المنطقة ستبقي الجرح عميقاً عند الأهالي، وهو ما سيستغله الاحتلال لتكريسه قبل انسحابه الذليل.
***