الإمام السيد موسى الصدر
ناصر قنديل
– ربما يشارك البعض في إحياء ذكرى تغييب الإمام السيد موسى الصدر من باب المجاملات السياسية التي تفرضها معادلات العلاقات العامة بين الطوائف والأحزاب، والإمام شخصية تمثل الرمز الأول في وجدان طائفة لبنانية كبرى، ومرجعية روحية وفكرية لتنظيم حزبي كبير لا يزال لاعباً سياسياً محورياً في حياة لبنان واللبنانيين، وربما يشارك كثير من مريدي الإمام الصدر اليوم من جيل الشباب في الإحياء، بصفته مؤسس مدرسة فكرية وسياسية صنعت مكانة لهم في الحياة اللبنانية، وربما يشارك آخرون في الذكرى لمعرفتهم بدور الإمام الصدر في إرساء ثقافة المقاومة وإطلاق نموذجها اللبناني الأول، وربما يشارك آخرون أيضاً لمعرفتهم بدرجة تمسك الإمام الصدر بالوحدة الوطنية وترفعه عن العصبيات الطائفية رغم زعامته لطائفته وتجلببه بثوب رجل الدين، أو بصفته واحداً من الإصلاحيين الأوائل الذين رفعوا راية الإصلاح ودعوا اليه مبكراً، في زمن ينمو فيه التعصب ويعلو فيه صوت الغرائز الطائفية والمذهبية، ويتقدّم فيه الخراب منذراً بما هو أسوأ وأقسى.
– ترغب هذه المقالة بالإضاءة على جوانب أخرى مثلها الإمام تستحق الإحياء في ذكرى تغييبه، فهو رغم كونه رجل دين عميق الإيمان صادقاً في تقواه، كان فيلسوفاً وصاحب دعوة، وهاتان الصفتان قد لا تعنيان الكثير لمجرد السماع بهما، لكن القصد هنا ليس التمجيد بل الوصف، فالفيلسوف هو سيد القلق، وصاحب الدعوة هو سيد العذاب والمعاناة، وليس من قبيل التشبيه بالرسل لكن من قبيل التذكير بالمسيرة، هكذا كانت مسيرة الأنبياء والرسل، عذاب البحث والتدقيق بالحقائق خشية الوقوع في الخطأ، مرارة التيقن وإطلاق الشك، الأرق لإلتماع فكرة لتدوينها، التفتيش عن كتاب جديد والإنغماس في قراءته حتى الإنتهاء من آخر صفحة فيه، تحمّل فظاظة الغير من المثقفين وحراجة أسئلتهم وتذاكيهم وعدم الملل والكلل من مواصلة محاورتهم بمختلف خياراتهم الفكرية والفلسفية والحزبية، وطروحاتهم المتعالية والمتشاوفة والتشكيكية، وتقبّلها بإبتسامة ومحبة وتسامح، والإصرار على الكرّ والفرّ بين الأفكار والأطروحات التي تغوص في عمق الفلسفة والسياسة والاقتصاد، وكان كصاحب دعوة مبشراً بها في صحراء القهر والتخلف والجهل، وبحر الزعامات والولاءات، لا يملك ما يعد به من منافسة في الخدمات، ولا الوظائف ولا المناصب، لا يملك إلا يقين إخلاصه وصدقه للناس، يبشرهم ويدعوهم للانضمام الى دعوته، ينام في المساجد والكنائس، قبل ان تبدأ بيوت الناس بإستضافته، وأحياناً يتكئ على مسند مقعد في سيارته لساعة نوم قبل ان يعاود الإنطلاق لمواصلة رحلته نحو لقاء آخر وقرية نائية أخرى، وكثيراً ما كانت أحوال الطرق السيئة تجبره على بلوغ الأمكنة مشياً لمسافات طويلة، وزاده قنينة ماء وعلبة تبغ، ورفقة مخلصة، وتوقف حيث أمكن لتناول سندويش بسيط غالباً ما يكون منقوشة بالزعتر اذا تيسّرت.
– أمضى الإمام الصدر في لبنان قبل إخفائه ثمانية عشر عاماً، توزعت الى مرحلتين قاسيتين، تخللتهما سنوات قليلة من الشعور بفرح الإنجاز دون الوقوع في نشوة النصر، وامتدّت المرحلة الأولى من سنة الوصول الى لبنان نهاية العام 1959 الى عام 1969 تاريخ انتخابه رئيساً للمجلس الإسلامي الشيعي، بعد نجاحه بانتزاع تأسيس المجلس عام 1967، متمسكاً بجعله مؤسسة وطنية للنهوض بأبناء طائفته بالعلم والثقافة وروح المشاركة في بناء الوطن كمواطنين مساوين ومتساوين، لينصرف الى تأسيس حركة المحرومين لتولد عام 1974، التي أرادها حركة مواطنة لبنانية أصرّ على شراكة نخبة من المفكرين من كلّ الطوائف والخلفيات الثقافية على مشاركته في تأسيسها، أداة للإصلاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي، ومن ثم أفواج المقاومة اللبنانية أمل التي اعلن وجودها 1975، وقد كانت أول مقاومة في التاريخ تؤسّس استباقا لوقوع الاحتلال وتعبيراً عن دورها الدفاعي وفق معادلة الشعب والجيش والمقاومة التي ابتكرها وأضافها للقاموس السياسي اللبناني، وتفاجئه الحرب الأهلية في العام نفسه فيصارع عكس الموج والمزاج والغرائز، فيما كانت أسهل الطرق للزعامة والنفوذ ان يدق نفير الدفاع عن الطائفة ويفتح صفوف التطوع للقتال فينال مالاً وجاهاً وزعامة لعشرات الآلاف من المقاتلين، وربما يكون سيد الحرب لو ارتضى، لكنه اختار بقوة الضمير أن يذهب عكس الاتجاه، رافعاً الدعوات لوقفها شبه وحيد، يصوم ويناشد ويتحرك ويعبر حواجز الخطف بين المناطق ويلاحق الحرائق الطائفية، لإطلاق مخطوف من هنا أو منع تدهور الحال بين منطقة وأخرى هناك، حتى ما كاد ينجح بترجمة مشروعه بالرهان على دور سورية في منع استمرار الحرب، قطعاً للطريق على دخول كيان الاحتلال “الإسرائيلي” على الخط، ليكون الاجتياح “الإسرائيلي” عام 1978، وإخفاؤه في العام نفسه.
– ليس من باب المبالغة القول انّ المشهد السياسي والثقافي اللبناني دخل في الجفاف مع غياب الإمام الصدر عنه، وتشهد الندوة اللبنانية التي كان ضيفاً مستمراً عليها، على عمق محاضرته الفكرية وحواراته الفلسفية، كما تشهد الصروح الجامعية والدينية على قفزه الذي لا يعرف التعب فوق الحدود والجدران، مبشراً بفلسطين والقدس، وعاملاً لثورة في إيران لم يتوقف عن استقبال قادتها والسفر لملاقاتهم، وما وراء عينه حلم مقيم بأن يزور القدس وطهران وقد عرفتا طريق الحرية، وان تبقى بيروت منارة ثقافية، وقد عرفنا على علي شريعتي، ومعاني كربلاء، ودولة النبي في المدينة، وكتب السيد محمد باقر الصدر، وقدّم لنا صورة إيران عبر رفيق دربه مصطفى شمران، وليس من قبيل المبالغة أيضاً القول انّ هذه الجذوة التي أشعلها، والمثال الذي جسده، كانا الأصل في ما صنعه الذين تربّوا في مدرسته، سواء من سلكوا طريق حركة أمل بقيادة الرئيس نبيه بري، في مقاومة الاحتلال والثورة على النظام، حتى كانت انتفاضة السادس من شباط التي فتحت طريق بيروت دمشق، وأسقطت اتفاق السابع عشر من أيار، وأطلقت مدّ المقاومة في الجنوب، او من التحقوا بإمام الثورة في إيران، الإمام الخميني العظيم الذي جاء بعد عام منتصراً يطلق موجة عالمية جديدة، لم تهدأ تداعيات الزلازل التي فجرتها، وكانت ثورته في طليعة انتظارات الإمام الصدر، فيجدون فيه تطويراً وتجذيراً للمبادئ التي آمنوا بها وتتلمذوا عليها بين يدي الإمام الصدر، وصاروا عنوان التحرير عام 2000 والانتصار عام 2006، ولا زالوا يحملون راية حزب الله، بقيادة السيد حسن نصرالله، وكلّ من المسارين شجرة مثمرة وضع بذارها هذا الإمام الفيلسوف الداعية صاحب الرسالة، الذي لم يعرف النوم عندما جاءه بائع البوظة في صور يشكو ان ابناء المنطقة من أتباع الإمام لا يأكلون من عنده لأنه مسيحي، ليفاجئه في اليوم التالي زائراً أمام الناس يتناول البوظة من عنده، كما لم يرتض أن ينام ليله إلا في كنيسة القاع مطمئناً واقفاً بوجه الفتنة، قائلاً بعمامتي هذه أحمي مدينة القاع وأبناءها وكنيستها.
– عبرة حادثة مغدوشة وعنقون عشية ذكرى تغييب الإمام هي التذكير بمعاني ما جاء به مبشراً، وما أمضى العمر لأجله داعياً مكافحاً، كما هي عبرة الاحتفال هذه السنة بذكرى تغييبه والنظام الذي حذر من انهياره على رؤوس اللبنانيين ما لم يسارعوا إلى إصلاحه ينهار فعلاً على رؤوسنا، والمقاومة التي قال إنها مصدر الفخر الوحيد لا تزال مصدر الفخر الوحيد، وسورية التي قال إنها الظهر والسند لا تزال الظهر والسند، وإيران التي بشر بها عمقاً صارت عمقاً بالفعل، وفلسطين التي أودعها بوصلة تشقّ الطريق الى الحرية.