الله يستر غرينادا…
} حيّان سليم حيدر
بين المستجدّ السياسي والمتغيّر العسكري خرج الأميركي من أفغانستان… أو كاد. الله يستر غرينادا!
طالما استمع العالم إلى خطاب الهزيمة يتلوه رؤساء أميركيون يفسّرون من طريقه «للجماهير الغفورة» أسباب إخفاقات إداراتهم المتعاقبة، من غير دروس مستفادة، لِيُبرّروا، كهواة مخضرمين، «تطوّر» الأحداث المفصلية التي افتعلوها بالبشرية. هذا أقلّه منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، مع انطلاق عصر الهيمنة الأميركية. وبهذا، ينتقل الأميركي، مُرغَماً بطلاً معاً، في نكباته للعالم من «لحظة رئيس» إلى «لحظة رئيس».
في التبرير التمهيدي لحاله هذه، قال الرئيس بايدن أنّ أميركا لم تذهب في الأساس إلى أفغانستان لبناء دولة. وبهذا فهو يكون قد كذّب كلّ ما جاء في «بروباغاندا» الغرب «الناتوي»، وتوابعه من مجتمع الكَمَنْجات والربابة، عن نشر مفاهيم الديمقراطية، وترسيخ مبادئ حقوق الإنسان، وتمكين المرأة، و»الدفاع عن قيمنا وطريقة عيشنا» (التي كانت، على فكرة، مهدّدة من الإنقراض في مغاور طورا بورا) حتى آخر المعزوفة التي باتت حقّاً مُمِلّة.
ومع الانسحاب الفوضوي والدموي من مطار كابُل، والتفجيرات التي أودت بحياة المئات من الضحايا ومنهم عسكر النخبة الأميركيين، أعلن بايدن، في مشهدية تلاوة خطاب كلّ رئيس أميركي مأزوم مهزوم، قال: «لن ننسى، لن نسامح، وسننتقم ولكن في التوقيت الذي نختاره». ثمّ ضاع في التفاصيل. نعم. الخطاب يقول وباختصار إنّ الولايات المتحدة الأميركية قد بدّلت أربع رؤساء وأزهقت آلاف الأرواح وبدّدت التريلّيونات من الدولارات وأضاعت عشرين عاماً من حياة البشرية لتستبدل طالبان ب… طالبان. نعم. ومع هذا، فقد ضحكت من جهلها الأمم.
إلّا أنّ المتابع ما زال يذكر أنّ الأميركي (بوش الولد) كان قد «دخل» (كلمة غير موفّقة في هذا المجال لفقدانها أيّ شرعية أو مشروعية من أيّ نوع كان) دخل أفغانستان على أثر أحداث 11 أيلول 2001 بهدف «اجتثاث الإرهابيين» (وصف مُتَعمّد الإبهام). وفي العام 2021 يُخرِج الإرهابيون، ذاتهم، أميركا من أفغانستان… أم أنّه قد فاتني شيء ما؟ يا لها من مهمّة قد أُنْجِزَت على أكمل وجه، أو أنّها وقعت على وجهها طَبّ؟ وباختصار علّق صحافي أميركي واصفاً إدارة بلاده بالقول إنّ الرئيس قد برهن أن أميركا ليس لديها لا الإرادة ولا القدرة على القيادة.
وكرّت سبحة التحليلات والتأويلات و… فقال أحد المُكابرين إنّ الأميركي هو الذي فعلها بنفسه كي يقطع الطريق على أيّ تراجع عن الانسحاب، مذكّراً بحادثة قضية لافون (Lavon Affair) في القاهرة (1)، ومنهم من سمّاها «لحظة» بايدن في تشبيه منه لـ «لحظة» كارتر (2) التي أسقطته فياإنتخابات لاحقة، ومنهم مَن تذكّر الهروب «الأيكوني» من على سطح السفارة في سايغون، تلك العاصمة التي أصبحت في ما بعد مدينة «هو شي منه»، اعتزازاً بإسم ذاك الشاب الفيتنامي، مساعد الطبّاخ العامل في مطعم باريسي، الذي جال بإسم «نغوين الوطني» (Nguyen The Patriot) موزّعاً مطالب بلاده التحرّرية على المتحلّقين حول الرئيس الأميركي يومذاك وودرو ويلسون في مؤتمر «السلام» المنعقد في فيرساي في العام 1919.
وتسمع عن حركات كانت مصنّفة «إرهابية» في ما مضى، وما زال بعضها كذلك، والتي أصبحت تُعْرَف الآن بـ «المعارضة المعتدلة». وللتذكير، فإنّ هذا الوصف، الذي يناقض المنطق الذي انساب منه، يدمج فيما بين صفة الإعتدال وحمل السلاح الثقيل الفتّاك، كان قد نشأ في أفغانستان القرن الماضي أيضاً ليبرّر للمستعمر نفسه دعم من كانوا يحاربون السوفيات يومذاك، وقد شاع إستعماله لاحقاً وخاصة في الحرب العالمية على سورية. نقول لا. ليس من حقّكم تلميع صورة الإرهاب على ما تشتهيه رياح سفنكم وفي التوقيت الذي يناسبكم، لن يفيدكم استخدام عدّة جوقة الطبل والعتابا هنا، كما وليس قطعاً من حقّكم شيطنة حركات المقاومة والنضال من أجل التحرير والتحرّر.
وبين بين، تأتيك أخبار الجشع والطمع، رفيقيْ الحروب، لا مناص، لا بل من مُسبّباتها، مثال أخبار السيد إيريك برينس (Erik Prince)، مؤسّس «شركة» المرتزقة بلاكْواتر (Blackwater)، «الشهيرة» بأنّها نزلت إلى إحدى ساحات بغداد خلال إحتلالها الأخير وأعدمت زهاء عشرين عراقياً وعراقية من المارّة الأبرياء وذلك انتقاماً فقط لعملية نفذّتها المقاومة العراقية ضدّها في مكان آخر وفي وقت آخر. لقد تمّت محاكمة أركان هذه الشركة، صُوَريّاً، لكي يُصدر الرئيس ترامب عفواً رئاسيّاً خاصاً عن المجرمين في آخر ولايته مستعيناً بصلاحيات الرئيس. هذا الضابط السابق، برينس، ما زال، حيّاً يرتزق، يعمل في كلّ ساحة يَنْوَجِد فيها الجيش الأميركي، وهلّا تتساءلون لماذا؟ هو يتقاضى هناك في مطار كابُل مبلغ 6,500$ لقاء تأمين تهريب كلّ أفغاني إلى الخارج.
ومن مفارقات قواعد الديمقراطية، أنّك أصبحت تسمع الآن السياسي الجمهوري يطالب بإسقاط الرئيس الديمقراطي لتنفيذه (وإن بشكل سيّئ) قرار اتّخذه الرئيس الجمهوري قبل حين. عجباً! حتى نحن اللبنانيين لم تخطر ببالنا هكذا هرطقة دستورية. استحوا! يا شماتة ترامب فينا.
وأكثر ما يلفتك هو غياب الرأي العام الضاغط واستبداله بـ «ذُباب» التغريدات والخبريات المزيفة. وبالمقارنة بزمن حرب فيتنام، أذكر أن منذ السنوات الأولى لها نزل شباب أميركا إلى ساحات الجامعات والشوارع، وبينهم السياسي ومشاهير الفن والموسيقى والرياضة، صارخين مُعترضين على التجنيد الإجباري، مطالبين بوقف حرب لا تعنيهم، الأمر الذي أنتج، ولو بعد حين، انسحاباً. أمّا الآن، فلا شوارع، ولا شباب، فقط نقد بوجه نكد… تماماً على غرار «الحوار» اللبناني.
وأنت، أيّها الجاهل للأمور الاستراتيجية، أنت تقرأ أن المبالغ المُنْفَقة على مدى عشرين عاماً خلال احتلال أفغانستان قد تجاوزت التريليونين من الدولارات، فتقول ببساطة «الساذج» لو أنّ «أهل» الاحتلال صرفوا ربع هذا المبلغ على التعليم والصحّة والسكن والغذاء والبُنى التحتية والإنتاج وفرص العمل لكانوا حقّقوا كلّ ما ادّعوه زوراً أنّه من أهدافهم «السامية» التي ترقى إلى مستوى «طريقة عيشهم». وللعلم، فإنّ ربع المبلغ المشار إليه هو ضعف ما رُصِد دوليّاً لإعادة إعمار أوروبا المدمّرة بعد الحرب العالمية الثانية (ما عُرِف بخطة مارشال)، وهو يوازي أيضاً الأموال «الموهوبة» (المعروفة بالمنهوبة سابقاً) من لبنان إلى الخارج منذ العام 1993. ولكن حتى في هذه الحال فلا فضل للبنان على غيره، إذ أنّه كانت هناك وعود لأفغانستان من نوع 24/24 وأعذار شتّى تنساب عذبة على رَنين «ما خلّوني».
إذن، وبعد ربع قرن، انقلب «العالم الحرّ» على نفسه وعلى نظرياته تماماً كما انقلب صاحب الفكر السياسي الاقتصادي الفلسفي الفذّ فوكوياما(Yoshihiro Francis Fukuyama) ، في إطلالته الأخيرة عبر مجلة «الإيكونوميست» المرموقة (The Economist)، انقلب على نظريته حول «نهاية التاريخ» التي شغل العالم بها لنصف قرن. وكان أنّ نهاية «الحلم الأفغاني» ليست نهاية للعالم.
إلّا أنّ «لحظة الرئيس» الأقوى والتي تمّ التستّر عليها حتى تاريخه بقيت «لحظة» الرئيس رونالد ريغان عقب تفجير مقرّ قوات «المارينز» في محيط مطار بيروت (3) (دائماً ما يكون اهتمام الأميركي بالإقامة المُطمْئِنة المُطمْأنة في جوار المطار… والغاية من ذلك هو الترحيب بالوافد، كما والإسراع في الهروب).
يبدو، من دون شك، أنّ اجتياح غرينادا أتى كنتيجة مباشرة لهزيمة الدولة العظمى في بيروت.
والآن وقد أحدث هجوم مطار كابُل «لحظة بايدن»، سيبقى الأميركي يعيش «الحلم الأميركي» متنقّلاً، أبداً، من «لحظة» رئيس إلى «لحظة رامبو» فإلى «لحظة» رئيس آخر وهكذا دواليك ! نعم «كلّن يعني كلّن».
الله يِسْترِك يا غرينادا !.. (3)
(1) عملية سرّية إسرائيلية فاشلة تمّ تنفيذها تحت الإسم المرمّز عملية سوزانّا (Operation Susannah) في صيف 1954 في مصر ضمن عمليات التضليل تمّ خلالها تجنيد يهود مصريين من قبل المخابرات الإسرائيلية لزرع قنابل داخل أملاك مصرية وأميركية وبريطانية، سينمات، مكتبات، مدارس أميركية… كي تبرّر بقاء القوات البريطانية للحماية إلخ… وقد أمر بها وزير الحرب الإسرائيلي بِنْحاس لافون (Pinhas Lavon) الذي إضطرّ للإستقالة على أثر فشلها وافتضاحها.
(2) لحظة الرئيس كارتر: في 24 نيسان 1980 انتحست عملية عسكرية أمر بتنفيذها الرئيس جيمي كارتر كانت تهدف إلى تحرير 52 رهينة أميركية محتجزة في السفارة في طهران. فتعطّلت 3 مروحيات من أصل 8 ولدى تنفيذ أمر انسحابها عقب إلغاء المهمة اصطدمت إحداها بطائرة عسكرية مخلّفة ثمانية قتلى. أعلن على الأثر الرئيس كارتر كامل مسؤوليته عن الحادثة. ومن ثمّ عُرِفَت هذه الواقعة بـ «لحظة كارتر».
(3) «لحظة ريغان»: فجر 25 تشرين الأول 1983 اجتاحت الولايات الأميركية وتحالف مؤلّف من 6 دول في البحر الكاريبي جزيرة غرينادا، التي كانت قد نالت استقلالها من بريطانيا في العام 1974، وخلال العملية التي حملت الإسم المرمّز «عملية الغضب العاجل» (Operation Urgent Fury) تمّ إعتقال ثاني رئيس وزراء للبلد المحتلّ ومن ثمّ إعدامه وذلك على رغم تصويت هيئة الأمم المتحدة، بـ 108 من أصوات أعضائها ضدّ 9، معتبرة هذا العمل مخالفة مفضوحة للقانون الدولي.
أمّا اللافت في الموضوع هو أنّ غالبية محرّكات البحث والاستقصاء الحديثة تشير إلى أنّ العملية تمّت بعد يومين فقط من تفجير مقرّ «المارينز» الأميركي في محيط مطار بيروت الذي أودى بحياة 241 من نخبة عسكر البحرية الأميركية، موحيةً بذلك أنّ اجتياح غرينادا كان لتحويل الانتباه عما سواه من هزيمة كما والثأر من أيّ كان… على غرار «أدبيات» الكاوبوي الأميركي. لذا أتى اجتياح غرينادا، الجزيرة القزم في البحر الكارّيبي، نتيجة مباشرة لهزيمة الدولة العظمى في بيروت.