أخيرة

الزيّ الوطني للشعوب وحماية الهوية

} سارة السهيل

لما كان الإنسان وليد بيئته الثقافية والاجتماعية والدينية، فإنّ هذه البيئة صاغت فكره وحفّزته على الاهتمام بمظهره الخارجي، باعتباره مرآة تعكس قبول الناس ومدى هيبته عندهم واحترامهم له. لذا أدركت الشعوب أهمية اختيار زيّها الوطني الذي يعكس طبيعة حياتها، سواء كانت منفتحة او منغلقة، وتترجم طبيعة أرضها وتضاريسها من جبال وسهول وأنهار وبحار، ومناخات باردة أم حارة، لأنها تمثل مدى الترابط الاجتماعي والقوة المهابة التي يعبّر عنها «الملبس» للشعوب المجاورة التي تحافظ على مكانتها بين أقرانها.

لعب الزيّ القومي للشعوب دور السفير للجمال والأناقة، والترجمان لمظاهر الحياة السياسية والدينية، كما في لباس رجال الدين من كلّ الأديان السماوية وغيرهم من الذين اختصّوا لأنفسهم أزياء خاصة تعبّر عن الوقار والهيبة من خلال ألوان متعددة، بينما عكست الأزياء الرسمية للشعوب التي اعتادت الحروب على نقوش ورموز حربية وغيرها.

يمكن القول إنّ الزيّ الوطني وامتداده عبر الأجيال، يُعدّ جسراً ثقافياً نقل إلى الشعوب وهي تعيش مخاضات الألفية الثالثة للميلاد، أساليب الحضارات القديمة في الفكر ورؤيتها للجمال وللحياة عموماً، وكيف كانت هذه الأزياء الوطنية مكوّناً رئيسياً من مكونات الدولة، أو القومية وثقافتها وحضارتها وعلاقات الانتماء والوفاء لها لكي تحافظ من خلالها على بقائها ووجودها الإنساني.

مع عصر العولمة اختفت الكثير من مظاهر الأزياء القديمة للشعوب، وتحوّلت الى مادة فولوكلورية تستحضر معها نسمات الماضي العريق، عبر المهرجانات الكرنفالية والأعياد الوطنية للدول.

ومع ذلك فقد حافظت على زيّها القومي مثل، «القفطان» المغربي، وجعلته حاضراً من خلال المرأة التي تلبسه في المناسبات والأفراح. وحافظت تونس على القبعات الحمراء بين أوساط الشباب ويرتديها الفنانون التونسيون. وحافظت الكثير من البلدان العربية على أزيائها الوطنية خاصة في القرى والمناطق ذات البيئات المحافظة.

يبقى الزي الوطني حاضراً في الأعياد والمناسبات الوطنية تمسكاً بالهوية والحفاظ عليها خوفاّ من ذوبانها في فضاءات العولمة ومن طوفان «الموضات» التي لا تنتهي.

رغم أهمية الإعلام في تحديد هوية اية دولة في عالمنا المعاصر، غير أنّ الزيّ الرسمي ظلّ علامة فارقة ومميّزة عن الهوية، ولم يتبخر بفعل السنين، والتعرّف على الشعوب يكون في أحيان كثيرة من خلال أزيائهم الوطنية. فمثلاً الزيّ الرسمي لدول الخليج العربي يبدو متشابهاً، ويشتهر بـ «الغترة» و«القحيفة» والجلباب الأبيض، ويوضع فوقهم «البشت» الأسود أو البني اللون المطرّز بـ «الرسيم» الذهبي، المطعّم بالألوان أو الذهبي الخالص، وفوقهم «العقال» المصنوع من «شعور» الماعز الأسود ليعكس الهيبة والوقار.

أما في ليبيا فإنّ النساء الليبيات يهتمّين بشكل كبير في ملابسهنّ خاصة أنواع الأقمشة ويفضّلن معدن الفضة لزركشة أقمشتهم وأثوابهم، فترتدي المرأة الليبية عادة ما يسمّى البدلة الكبيرة وهي عبارة عن (جيليه) او «فرملة» يعني «الجاكيت» القصير بدون أكمام، وتسمّى في ليبيا «القمجة» وهي جميلة ومزخرفة مع السروال. ورأيت ملابس بأثواب طويلة مرصعة بمعادن ثقيلة وكبيرة الأحجام، أما الرجل الليبي فيرتدي عادة وخاصة في المناسبات الخاصة والأعياد «الزبون» وهو سروال و»فرملة» من نفس اللون والقماش وفوقها «سورية» يصل طولها الى الركبة.

تنوّعت الملابس الشعبية في مصر وفق عادات وتقاليد كلّ إقليم جغرافي، فالطبقات المرموقة تستعمل خامات الكتان النقي، وترتدي المتزوجة الثوب المطرّز بالأحمر، واختصّ الأزرق بالعجائز والأرامل، وزيادة التطريز رمزاً للفرح والثراء.

كذلك تتقارب الأردن وفلسطين في زيّهما الرسمي «الشعبي»، بالجلباب الغامق اللون وفوقه السترة، مع اختلاف في لون «الغترة»، الأحمر بالزيّ الأردني بلونها الأحمر، والأبيض أو المربعات البيضاء والسوداء بالزيّ الفلسطيني. أما اللباس الاردني الممزوج بين القديم والحديث، هو ارتداء البدلة العادية مع «الغترة» الحمراء والعقال، أما النساء في الاردن فترتدين الثوب المطرّز يدوياً ويكون باللون الأسود والأحمر غالباً رغم تنوّع الألوان حديثاً.

أمّا سورية حافظت على الزيّ الدمشقي القديم في احتفالاتها وخاصة يوم العرس، وهو «بنطال» فضفاض ممسوك بـ «شال» ملفوف على الخصر، وقميص مزركش بألوان مبهجة من الأعلى، فيما يلفّ الرجل كتفيه بشال أبيض ويضع طاقية على رأسه.

وفي العراق يتنوع اللباس التقليدي من منطقة إلى منطقة نظراً لتعدّد المكوّنات والديانات. فلباس المرأة في العراق يعتمد بشكل رئيسي على العباءة السوداء التي تسمّى أيضا «الجزية» او «المبرد» حسب المادة المصنوعة منها، وأحياناً تضع المرأة على وجهها غطاء يسمّى «البوشية»، وتتزيّن المرأة العراقية عادة بالكثير من الذهب والمصوغات أبرزها (الحجول) وهي خلاخيل الأقدام.

أما الرجل البغدادي إذا كان من الحضر او المثقفين الأفندية يرتدي البدلة العادية، ويضع «الفينة» على رأسه، وهي شبيهه بالقبعة، لكنها دقيقة من الأمام والخلف بشكل أقرب للعين.

وفي العراق أيضاً اختص التركمانيون بزيّ خاص، للرجال والنساء، (وسُمّيَ بالزيّ البغدادي) بفعل عوامل سياسية، ويتكوّن من قميص أبيضَ، ورداء واسع من الأقمشة الثمينة، وسروال متسع وجاكيت، وحزام، وطاقية راس بيضاء، و»الياشماغ» الأبيض والأسود.

أمّا في مناطق شمال العراق، فقد استوحى الكرد ملابسهم من طبيعة المنطقة الخلابة بألوانها المفرحة، وأهل هذه المنطق يعيشون بين قساوة الجبال والظروف الصعبة، ويحبّون الفنّ والمرح والأغاني والدبكات والموسيقى، من هنا كانت الأثواب التي يختارونها جميلة ومميّزة. قالمرأة تلبس على رأسها (الهريتين) المؤلف من قطعتين ملوّنتين واحدة على الرأس والثانية تتهدّل فوقها، وتلك التي تعيش في الريف ترتدي وشاحاً مطرّزاً بخيوط لامعة تعقده تحت ذقنها على الرقبة وترتدي (الفقيانة)، ثوب طويل الى الارض وهو من قماش شفاف او خيوط حرير، وتحته قميص داخلي رقيق، أما الجزء العلوي فهو «سترة» قصيرة بلا أكمام، وتضع فوقهم حزاماً من الصوف، وأحياناً من الذهب يكون سميكاً بعض الشيء، أما القطعة الأخيرة فهي السروال الذي يكون عريضاً أيضاً. أما الرجل فيرتدي الشروال (السروال)، و»الجوغة» (السترة) و»البشتين»، وهو حزام من القماش يلف على الخصر، فضلاً عن العمامة الملونة.

أما في لبنان فيتميّز اللباس التقليدي بالألوان الزاهية وخاصة «الشروال» و»الصدرية» المزخرفة، وفي فترات زمنية كانت النساء تضعن على رؤوسهن قبعات طويلة جداً وأقمشة تتدلى من الرأس، ويرتدي الرجال في جبل لبنان «الجلابية» و»العقال «، وترتدي المرأة فساتين ريفية فضفاضة مزركشة بالألوان التي تشبه طبيعة لبنان الخضراء والمثمرة.

وفي الختام، أقول أنه رغم انّ هذه الأزياء هي انعكاس لشكل خارجي للحضارة والهوية، إلا أنني، أعتقد، انّ شعوبها لم تستطع كثيراً ان تحافظ على جوهر أصالتها وحضارتها كما ننشد، وهويتنا للأسف تسلب منا تدريجياً، حتى أنّ البعض، أصبح يخجل او يستعر من التاريخ والأصالة والماضي، كأنّ الحداثة بنظره أرقى وأجمل، وليس مفاجئاً انجرافنا الى عولمة الذوق والتوجيه الموحد في الملبس والمأكل ونظام الحياة!

للبحث تتمة…

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى