أخيرة

البنى اللغويّة والجماليّة الحديثة عند الشّعراء التّمّوزيّين في الرّبع الأخير من القرن العشرين للباحث د. مصطفى فوعاني

قراءة وإعداد وتأليف:
حسين أحمد سليم الحاجّ يونس

تتميّز نهضة الأمم ورفعتها الحضاريّة ورقيّها في مدنيّتها البشريّة بحركة سعة وفعل وعيها الثّقافي، الذي هوانعكاس إيجابي للوذها بجوهر ما يكتنز به تراثها التّاريخي، المحفّز لها تفعيلاً عمليّاً كي تستمدّ وتستلهم من قِيم إنجازاته الإنسانيّة والتّاريخيّة، ثقة كبرى بفاعليّة وديناميكيّة قدراتها وطاقاتها، والعمل الجدّي على توظيفها بالإضاءات الهادفة لمعالم رؤى مستقبلها.

من منطلق هذه السّمات العرفانيّة المرتبطة ارتباطاً وثيقاً ببعضها، في توصيف وتعريف الأدب الإنساني والنّزعات المثاليّة عند الكتّاب على مختلف إبداعاتهم وفنونهم الأدبيّة، بحيث يُعتبر فعل توظيف قصص وروايات الأساطير التّاريخيّة، وتضمينها وتدبيجها بأسلبة فنّيّة وتقنيّة مميّزة، في سياقات نسائج صياغات الشّعر العربي الحديث والمعاصر وهي من أبرز الظّواهر اللافتة.

والأساطير برواياتها وقصصها الخياليّة والافتراضيّة والماورائيّة والخرافيّة، ارتبطت قديماً بالشّعر العربي منذ نشأته بنسب متفاوتة، حيث استحضر الشّعراء الأوائل الظّواهر الطّبيعيّة بصور بلاغيّة في نسائج وسبك قصائدهم، وارتبطت عناصر مكوّنات الأساطير الموروثة من سالف الزّمن الماضي تعبيراً حضورياً عضوياً واقعياً موضوعياً برؤى معاصرة، لينبثق فعل الإبداع الأدبي بتنوّع فنونه، لا سيّما الشّعريّة، من بواطن خلفيّات الرّموز الأسطوريّة فيض إبداعي أدبي شعري داخلي، تعبيراً آخر لترجمة الأحداث والإنجازات والحالات والمواقف الإنسانيّة المتنوّعة.

ولقد برز في مختلف وتنوّع فنوننا الأدبيّة المعاصرة والحداثويّة، استخدام الرّموز الأساطيريّة بأسلوب تجريدي وسوريالي نابع من سرديّات قصصيّة وروائيّة موروثة، كأدوات افتراضيّة تجريديّة وسورياليّة للتّعبير. حيث لعبت قصص وروايات الأساطير الغريبة العجيبة، دوراً كبيراً لتبيان ورسم معالم ورؤى الآمال والمقاصد والأبعاد الإنسانيّة.

وتميّز الشّعر العربي الحديث والمعاصر بجماليّات اقترانه بروايات وقصص الأساطير، كأنساق بنيويّة تزامنيّة شعوريّة، جوهرها الرّؤى الشّعريّة الحدسيّة الغيبيّة الصّوفيّة الطّابع… حيث أنّ من الإرهاصات التّأسيسيّة للبنى الشّعريّة العربيّة الحداثويّة والمعاصرة، إحياء روايات وقصص الأساطير واستثمارها مادّة معرفيّة وطاقة دلاليّة رمزيّة، بإيحائيّات عرفانيّة وإلهامات من البعد الآخر، تتوافق وتجارب الأنسنة المستمدّة من روحيّة عصرنا، تفاعلاً جدليّاً والقضايا الإنسانيّة.

والشّعراء العرب القدامى منهم والمعاصرون والحداثويّون، ربطوا حركة تجاربهم الشّعريّة بأصداء الحركات والنّشاطات والأحداث والإنجازات السّياسيّة والاجتماعيّة والإنسانيّة، حيث ظهرت بوادر الرّغبات والميول النّفسيّة بالتّحرّر، انعكاسات هواجس ورؤى بعث وولادة لما يرمز للحياة، حيث تبلورت معالم شعر الحداثة من كنه قصص وروايات أساطير النّماء والبعث والولادة.

من هنا ارتسمت عناصر تكوينات تطلّعات الباحث الدّكتور مصطفى علي الفوعاني، إلى ظاهرة توظيف أسطورة «تمّوز» في الشّعر العربي الحديث، إنطلاقاً من رهافة إحساسه وشفافيّة مشاعره وتذوّقه للإبداع الأدبي، كحائز على اختصاص جامعي رفيع المستوى في اللغة العربيّة وآدابها، باستطاعة الشّعر الحديث لملامسة الواقع، وتحقيق فعل التّقارب النّسبي بقراءة الواقع والواقع ذاته، ومدى أهمّيّة تجارب الشّعر الحرّ والدّور الرّائد، بإحداث ثورة فكريّة إنسانيّة ضدّ التّخلّف والفساد والرّكود. لإيمانه الجوهريّ ووعيه الباطنيّ وعرفانه الذّاتيّ، بإنّ الشّعر العربي الحداثوي هو ثورة حضاريّة فكريّة عصريّة بتفاعلات ثقافيّة نضاليّة توعويّة، من أجل توكيد الحرّيّات على المستويين الفردي والجماعي في ظلّ العدالة والسّلام.

ومن منطلق الدّوافع الشّخصيّة الخاصّة، التي تُجسّد الحبّ الشّديد عند الباحث الدّكتور مصطفى علي الفوعاني للشّعر العربي الحديث، بما لثراء هذا الموضوع بالمعاني والدّلالات والرّموز والمصطلحات الجديرة بالتّبحّر في ثنايا بواطنها… من هنا كانت وجهة الباحث الدّكتور مصطفى علي الفوعاني، صوب الدّراسات الشّعريّة الحداثويّة المعاصرة، التي وجد فيها إرواء غليله وإطفاء ظمأه، فكانت دراسته البحثيّة المباركة: «البنى اللغويّة والجماليّة الحديثة عند الشّعراء التّمّوزيّين في الرّبع الأخير من القرن العشرين»… منطلقاً برحلته التّنقيبيّة عن المراجع والمصادر الأساسيّة، التي تكشف له الأقنعة والاستتارات، بما يُغني ويُثري موضوع دراسته البحثيّة. ليفرغ عصارة عقله بجهده الفكريّ، في قالب بحثيّ معتمداً المنهج الوصفي السّيميائي التّحليلي، راصداً ومتتبّعاً كرونولوجيا الأسطورة «التّمّوزيّة» عبر مسارها التّاريخي، مضيئاً على معالم قيمتها ومدلولاتها الفكريّة، وتطوّرها الزّمني وسرد أحداثها ومسمّيات شخوصها… حيث قدّم في دراسته لكلّ شاعر تمّوزي تعريفاً وأنموذجاً من قصائده، وقام بدرسها وتحليلها بأسلبة موضوعيّة، فأتت دراسته وافية ودقيقة إلى أبعد الحدود، ومقاربة متطابقة للموضوع الذي اختاره لبحثه.

عمد الباحث الدّكتور مصطفى علي الفوعاني في دراسته لأسطورة «تمّوز» وعلاقة الشّعر بالأسطورة، راصداً الأسطورة «التّمّوزيّة» في الحضارات القديمة، وفعل حضورها في الشّعر العربي الحداثوي العصري… باحثاً في الدّلالات الرّمزيّة لأسطورة «تمّوز» عند «علي أحمد سعيد إسبر» الحامل لقب «أدونيس»، الشّاعر السّوري الذي أثار الجدل في تجربته الشّعريّة الإبداعيّة، متوقّفاً عند تجربة «تمّوز» وحيثيّاتها وأبعادها عند «أدونيس»…

وكانت له رحلة فكريّة تحليليّة مع «بدر شاكر السّيّاب» شاعر عربي عراقي وأحد أبرز شعراء الحداثة، ممّن وظّفوا أسطورة «الموت والحياة» في شعره، متتبّعاً ظواهر الأسطورة والعوامل المؤثّرة وأبعادها الوظيفيّة عند «السّيّاب» في تجربته الشّعريّة.

وكانت له وقفة بحثيّة مسهبة مع الشّاعر اللبناني خليل الحاوي، محاولاً الإبحار الغوصي في عالمه الشّعري وأبعاد أسطورة «تمّوز»، ومرتكزاتها ومستويات حضورها في تجربته الشّعريّة.

والشّعراء التّمّوزيّون، هم أولئك الذين يستخدمون أسطورة «تمّوز» و»إيننا»، أو إحدى تجلّياتها في كتابة أشعارهم، واستفادوا من هذه الأسطورة التّاريخيّة بإغناء أدبنا العربيّ الحديث… وكان منهم الشّعراء الكثر: جبرا إبراهيم جبرا ويوسف الخال وسليم موسى العشّي وسليمان محمود جمعة وحليم جرجس دمّوس ومطلق عبد الخالق وعبد الكريم النّعم وعلي محمود جمعة وغازي بركس… اختار منهم الباحث الدكتور مصطفى فوعاني ثلّة نموذجيّة من ثلاثة شعراء وهم: «علي أحمد سعيد إسبر» الملقّب «أدونيس» و»بدر شاكر السّيّاب» و»خليل حاوي»، هؤلاء الذين وجدوا في الأسطورة «التّمّوزيّة» وسيلتهم الشّعرية الهائلة التي سخّروها لفكرتهم وكتبوا فيها أجمل وأعمق شعرهم.

وفي ما يتعلّق بمأساة تموّز أو مراث لتمّوز فقد قيل: «عندما يرحل التّمّوز إلى تحت الأرض، تصبح عشتار، عاشقته، كئيبة وحزينة وتندبه وترثيه وهي مشهورة بمأتم تمّوز… ومن بعد ذلك كان النّاس يقيمون مراسم لمأتم هذه الأسطورة وفي كثير من القصائد الدّينيّة البابليّة مراث لتمّوز الذي فجعت به الأرض يشبّه فيها بالنّباتات السّريعة الذّبول.

والمهمّ هنا من تفاصيلها موت «تمّوز» وعودته إلى الحياة في كلّ عام تعبيراً عن هذه الظّاهرة. فموت «تمّوز» يعني الجفاف والمحل والعقم، وعودته إلى الحياة تعني الخصب والتّكاثر وازدهار الطّبيعة. والشّعراء «التّمّوزيّون» استلهموا هذه الفكرة وقيمتها الطّقسيّة في التّعبير عن أملهم في ميلاد جديد للعالم على أنقاض العالم القديم المجدب العقيم.

وكلاً من «بدر شاكر السّيّاب» و»خليل حاوي» و»أدونيس» وجميعهم كانوا من شعراء مجلّة «الشّعر» للشّاعر «يوسف الخال»، هم شعراء «تمّوزيّون»، توسّعوا في تفسير الأسطورة وتنويع دلالاتها وإيحاءاتها… والواقع أنّ الأسطورة نفسها تحتمل مثل هذا التّوسّع نظراً لتعدّد تجلّياتها في الأساطير المحلّيّة الخاصّة بالأقوام التي انتقلت إليها، (فتمّوز هو أدون، وأدوناي، وبعل، وأدونيس، والمسيح… وإيننا هي عشتار البابليّة، وهي عشتروت، وأفرودايت…)، ووفق هذه الرّؤية وصف الشّعراء (بدر شاكر السّيّاب وخليل حاوي وأدونيس) بأنّهم «تمّوزيّون». فتموز هو (طائر الفينيق عند أدونيس، وهو تمّوز نفسه في شعر بدر شاكر السّيّاب، وهو كل هؤلاء وغيرهم لدى خليل حاوي…)، الذين يشتركون في تصوير العالم المعاصر بأنّه أرض خراب يباب ماتت فيها القيم الإنسانيّة، مع التّبشير بعالم جديد وقيم جديدة، وهذا العالم لا يكون إلاّ بحركة موت وانبعاث رمزها موت «تمّوز» وانبعاثه.

والشّعراء التّمّوزيّون تأثّروا بقصيدة ت. أس. إليوت الشّهيرة «الأرض اليباب» واستعانوا بالأسطورة للتّعبير عن جدب الحضارة الحديثة وجفافها… واستخدموا فكرة القيامة والانبعاث، كفكرة تمّوزيّة في جوهرها، وسخّروا الرّموز التّمّوزيّة، رموز الخصب والجدب، الانبعاثيّة الثّيماتيّة بتجلّياتها المتعدّدة مثل: تمّوز، والبعل، والمسيح، والعنقاء، لكتابة وصياغة أجمل أشعارهم وأعمقها، وما حملت من أفكار تعبّر عن موقفهم من الحضارة المعاصرة وإفلاسها الرّوحي والأخلاقي… وكان بدر شاكر السّيّاب شاعراً تمّوزيّاً معمّقاً بامتياز أكثر من أدونيس وخليل حاوي، اللذين كانت قصائدهم التّمّوزيّة محدودة جدّاً… حيث كان لكل شاعر همومه ورؤاه الأيديولوجيّة الخاصّة وأدواته الفنّيّة التي ميّزته عن سواه.

وهكذا للشّعر المكانة المرموقة في أنواع الفنون الأدبيّة، التّي هي حلقات متّصلة في سلسلة النّشاط الإبداعي للفكر البشري. ومن أبرز الصّلات التي تقيمها الأسطورة مع الشّعر، هو أنّ لكليهما جوهراً واحداً على مستويّ اللغة والأداء. حيث يشتركان في تشييدهما لغة استعاريّة تلميحيّة تلهث وراء الحقيقة من دون أن تسعى إلى الإمساك بها. ويتجّلى الإداء من خلال عودة الشّعر الدّائمة إلى المنابع البكر للتّجربة الإنسانيّة والتّعبير عن الإنسان بوسائل عذراء لم يمتهنها الاستعمال اليومي.

ممّا تقدّم نستنتج أنّ استخدام قصص وروايات الأسطورة في الأدب العربي، لم يكن مزدهراً من قبل كما ازدهر وشاع في عصرنا المعاصر. فبعد الحرب العالميّة الأولى، تعرّف الأدباء العرب إلى الأدباء المشهورين الغربيّين، وأخذوا منهم وعنهم استخدام الأساطير مثل تمّوز أو آفروديت أو أدونيس.

ظهرت في زماننا الحالي فئة من الشّعراء المعاصرين العرب واللبنانيّين، الذين يشتهرون بالشّعراء التّمّوزيّين، عالجوا الأساطير عامّة وأسطورة «تمّوز» خاصّةً معالجة إبداعيّة بإعطاء الصّورة الجديدة.

بالدّراسة البحثيّة المعمّقة في نتاجات الحركة الشّعريّة العربيّة المعاصرة، يتبيّن لنا أنّ الشّيء الوحيد الذي يربط ما بين آثار هؤلاء الشّعراء جميعاً، هو حالة الاعتقاد بميزة «تمّوز» في انبعاثه وإعطائه الحياة والنّماء إلى الأرض.

تحليليّاً موضوعيّاً نتلمّس التّحوّلات البلاغيّة لهذه الأساطير وقصصها ورواياتها ورموزها، في أشعار الكثير من الشّعراء المعاصرين، إلى رموز للانبعاث والإحياء والرّجاء الذي تحتاج إليها البشريّة على هذه الأرض، في ظلّ هذه الليالي المظلمة وفي هذه الظّروف القاهرة الرّاهنة.

الدّكتور مصطفى علي فوعاني، من مواليد مدينة الهرمل بتاريخ العاشر من نيسان عام 1973. حائز على شهادة البكالوريا اللبنانيّة – الثّانويّة العامّة عام 1992. إجازة في اللغة العربيّة وآدابها من الجامعة اللبنانيّة عام 1998. دراسات معمّقة في اللغة العربيّة وآدابها من جامعة الرّوح القدس في الكسليك عام 2004. كفاءة في اللغة العربيّة وآدابها في كلّيّة التّربية في الجامعة اللبنانيّة عام 2005. ماجستير في اللغة العربيّة وآدابها من الجامعة الإسلاميّة في لبنان عام 2017. دكتوراه في اللغة العربيّة وآدابها من الجامعة الإسلاميّة في لبنان عام 2020. أستاذ تعليم ثانوي في ملاك وزارة التّربية من عام 2004. بعد امتحانات مجلس الخدمة المدنيّة ونيل العلامة الأولى على صعيد لبنان بمعدّل 79 ونصف / 100

له: «غلواء»: دراسة تحليليّة في شعر الياس أبو شبكة. «طواحين بيروت»: دراسة الشّخصيّات – الزّمان – المكان في رواية توفيق يوسف عوّاد. «البنية الجماليّة في نصّ الرّئيس نبيه برّي»: رسالة ماجستير أعدّت في الجامعة الإسلاميّة. «الشّعراء التّمّوزيّون في الرّبع الأخير من القرن العشرين»: أطروحة دكتوراه قُدّمت في الجامعة الإسلاميّة، نال على أثرها شهادة الدّكتوراه بتقدير جيّد جدّاً. عشرات المحاضرات منشورة على مواقع التّواصل الاجتماعي.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى