مخاطر الإرهاب الاقتصادي الأميركي ضدّ لبنان ووجوب المواجهة؟
العميد د. أمين محمد حطيط _
بعد أن تيقنت أميركا مع ما تجرّه من أذيال إقليمية ودولية تسمّيهم حلفاء أو شركاء لها، طبعاً شركاء في العدوان والتآمر على الشعوب، بعد ان تيقنت من فشل عدوانها على سورية وتالياً على محور المقاومة ومع إرساء معالم هزيمتها الاستراتيجية المدوية في أفغانستان باتت تركز على الحرب الاقتصادية والإرهاب الاقتصادي الذي تعوّل عليه ليعوّض فشلها في ميادين المواجهة النارية والعملانية وكان لبنان مستهدفا مع سورية بهذه الحرب الوحشية التي طالت المواطن اللبناني في أهمّ حاجاته الحياتية كالدواء والغذاء والطاقة على أنواعها.
اعتقدت أميركا انّ هذه الوحشية التي تمارسها خنقاً وحصاراً ضدّ لبنان ومع وجود عملاء لها فيه خانوا بلادهم وخانوا شعبهم وانصاعوا لها في تحقيق ما تريد ارتكابه من جرائم بحق لبنان والمواطن اللبناني، اعتقدت أميركا أنها ستثير الشعب على المقاومة وتجعل الأخيرة تنكفئ عن مشروعها الاستراتيجي للتحرّر الوطني والقومي والإقليمي وتستسلم لها تحت ضغط المعاناة الشعبية وتقدّم رأسها منصاعة وتتنازل عن مكتسباتها التي حققتها خلال العقدين الماضيين.
اعتقدت أميركا أنّ حرمان الطفل في لبنان من الحليب وحرمان المريض من الدواء وحرمان المودع المصرفي من أمواله، وحرمان المواطن من الكهرباء والماء والبنزين والمازوت والغاز المنزلي، هذا الحرمان الموجع والمتعدد العناوين والأشكال سيتسبّب كما ظنّت بكسر إرادة لبنان ومقاومته وحمله على التراجع عن حماية الوطن والدفاع عن حقوقه والسكوت عن احتمال استجابة هذا او ذاك من المسؤولين في لبنان للإملاءات الأميركية والقبول برسم حدود برية جديدة مع فلسطين المحتلة طالما روّج لها لتعطي “إسرائيل” أكثر من ٢٠ مليون متر مربع من الأرض اللبنانية والقبول بترسيم حدود بحرية تعطي “إسرائيل” أكثر من ١٤٥٠ كلم٢ من المنطقة الاقتصادية البحرية الخالصة للبنان دون ان ننسى السعي الأميركي “الإسرائيلي” الدائم لتوطين الفلسطينيين في لبنان.
لقد منعت أميركا وبكلّ صلافة وفجور ووقاحة، منعت الاستثمار الأجنبي في لبنان خاصة الصيني والروسي والايراني وتسبّبت عبر عملائها في القطاع المصرفي في انهيار هذا القطاع، ما جعل الأموال بعيدة عن متناول يد أصحابها، وقادت لبنان الى الفراغ السياسي والانهيار النقدي والاقتصادي ووضعت لبنان على شفير المجاعة ما حمل الكثير من أبنائه على السفر الى الخارج هرباً من الجحيم المخطط أميركياً والمنفذ بأيدٍ لبنانية، وقد يكون إفراغ لبنان من شبابه أيضاً هدفاً من اهداف السياسة العدوانية الأميركية أيضاً.
لقد تسبّب الحصار الأميركي والاحتكار والوكالات الحصرية والجشع لدى التجار وممارسة النهب والفساد الميليشيوي في تداول المحروقات والدواء وبعض حاجات صناعة الرغيف، تسبّب في نشوء ظاهرة التجارة غير المشروعة وقيام السوق السوداء ووضع البلاد على عتبة مرعبة من التوتر والصدام داخل المجتمع والأخطر من ذلك خلق نوعاً من انغلاق المناطق على نفسها ممهّداً لما يمكن تسميته “الاقتصاد الذاتي” على صعيد المناطق وبعض شرائح الطوائف والأخطر من ذلك ما يمكن وصفه بأنه مقدّمات لـ “فيدرالية اقتصادية” تفرض بالأمر الواقع وقد يتخذها البعض مدخلاً لفيدرالية سياسية راج الحديث عنها او الدفع اليها خلال الأعوام القريبة الفائتة.
لقد وضعت السياسة الأميركية المخططة للبنان والمعتمدة في تنفيذها على لبنانيين، وضعت لبنان امام تحديات خطيرة لا تقتصر على الشأن المعيشي بل تتعداه وللأسف الى الشأن الوجودي والكياني من خلال الدفع الى الهجرة وتفكك المجتمع وضمور العلاقات الاجتماعية والحد من الزواج والتسبّب بانهيارات متعددة في مؤسسة الزواج ذاتها، بعد ان تعطلت عجلة الإنتاج الاقتصادي وتراجع الدخل الفردي والعام وانخفضت القيمة الشرائية للرواتب والأجور ورغم ذلك تستمرّ أميركا في سياستها في الإرهاب الاقتصادي وحماية عملائها من جلادي الشعب وأرباب النهب والفساد في أروقة السياسة والاقتصاد والمال والمجتمع مع رواج بدعة الـ N.G.O أيّ المنظمات غير الحكومة التي انتشرت بشكل عجائبي بإرادة أميركية واضحة رمت الى جعلها بديلاً عن دولة قيد التفكك والانهيار.
ورغم ما تقدّم من سوداوية المشهد اللبناني وحراجته وصعوبته وخبث أميركا ولؤمها ولا إنسانيتها في صنعه وسفالة ودناءة وإجرام لبنانيين ساعدوها في عدوانها وإرهابها فإننا لا نرى العلاج والدفاع أمراً ميؤوساً منه أو أنّ العدوان بات في وضع مقطوع بنجاحه. بل أقول رغم كل ذلك فإنّ منظومة العدوان والإرهاب الاقتصادي بوجهيها الداخلي والخارجي، على قدر من الوهن تنبئ فيه بأنّ مواجهة جادة مدروسة تمكن من إسقاط العدوان وتمنعه من تحقيق أهدافه ونقدّم دليلاً على ذلك ما قامت به المقاومة في موضوع استيراد النفط من إيران حيث تصرفت على أساس انّ الإرادة الأميركية ليست قدراً لا يُردّ او من قبيل الامور التي لا تواجه.
فالمقاومة التي خبرتها أميركا و”إسرائيل” في الميدان، كان لها في النفط جواب وموقف يسفه غرور أميركا ويفضح سوء التقدير لديها ويكشف جهلها بطبيعة المقاومة ونهجها ومنهجها ومبناها العقائدي والتنظيمي ويُرسل لها الرسائل الواضحة والقاطعة بأن من هزم العدوان الأجنبي في الميدان لن يستسلم له تحت أيّ ضغط اقتصادي مهما كان نوعه ومهما كان أثره. فللمقاومة أساليبها التي تمكنها ان تتفلت من مكائد العدو مهما تنوّعت واشتدت.
وفي هذا السياق أيّ الردّ على الحصار الأميركي للبنان وإيران وسورية اختارت المقاومة ان تنفذ عملية اقتصادية مثلثة الأضلاع تشارك فيها الأطراف الثلاثة المستهدفة بالإرهاب الاقتصادي الأميركي (إيران لبنان سورية) فجهّزت سفينة شحن نفط، اعتبرتها المقاومة أرضاً لبنانية لنقل نفط إيراني الى ميناء سوري لسدّ حاجة مستهلك لبناني، فكانت عملية تجارية منظمة أحسن اختيار موضوعها وأسلوب تنفيذها ووسائل حمايتها.
لقد أربكت المقاومة بقرارها أميركا و”إسرائيل” وجعلتهما تتيقنا انّ المقاومة تعرف كيف تحوّل التحدي الى فرصة وكيف تنجح باستثمارها ما جعل أميركا تبدي استعداداً للتراجع عن بعض سلوكيات الحصار فكان موقف سفيرتها في بيروت المعلن لتسهيلات أميركية للبنان لتمكينه من استجرار الكهرباء من الأردن والغاز من مصر وكله عبر سورية، ثم كان موقف السناتور الأميركي مورفي المتحدث باسم وفد الكونغرس الى لبنان والذي رغم ظاهره فإنه يستشفّ منه تراجعاً أيضاً عبر قوله انّ “واشنطن تبحث عن سبيل لتزويد لبنان بالمحروقات من دون عقوبات”، لأنّ ما تقوم به المقاومة من استيراد من إيران هو على حدّ زعمه خاضع للعقوبات لأنّ “أيّ وقود يجري نقله عبر سورية خاضع للعقوبات”.
فإذا كان قرار واحد بالمواجهة جعل أميركا تتراجع امام المقاومة وتفك الحصار ولو جزئيا، رغم انها رفضت في السابق طلبات لبنان ذات الصلة وعلى مدار سنتين متتاليتين واليوم جاء قرار المقاومة فأجبرها على إظهار الاستعداد لفك جزئي للحصار لان المقاومة وضعتها أمام خيارين: “فكوا الحصار بأيديكم او نكسر الحصار بأقدامنا” أما التهديد والتهويل فإنه لن يلقى عند المقاومة أذناً تهتمّ ولن تكون مفاعيله إلا مزيداً من الجهوزية للمواجهة التي نعلم أنّ أمّيركا المنكفئة و”إسرائيل” المتخبّطة لن تبادرا اليها وإنْ فعلتا فإنهما ستندمان.
وعليه نقول ان على لبنان ان يتخذ من قرار المقاومة استيراد النفط من إيران وعبر سورية نموذجاً يُحتذى للتعامل مع أميركا ومواجهة حصارها وإملاءاتها، وعلى المسؤولين في الدولة ان يعلموا انّ المقاومة التي انطلقت لتحرير الأرض بعد ان عجزت الدولة عنه، ستكون جاهزة لسدّ أيّ عجز او تلكؤ وعلى طريقتها ووفقاً لأساليبها لمواجهة الحصار والإرهاب الاقتصادي الأميركي حتى تحمي لبنان وشعبه، أما القول بأنّ “أميركا ستستمرّ بالحصار حتى الاستسلام او الاندثار” فإنه قول فيه من الخنوع والتشاؤم ما لا يتوافق مع نهج المقاومة التي ترى انّ أميركا ستتراجع عن الحصار وسيبقى لبنان كما تريده المقاومة.