إحراق العهد خيار لن ينتهي… والخارج لن يضغط لتشكيل حكومة إلا إذا…
} روزانا رمّال
وحدهم الذين شهدوا على ولادة اتفاق الطائف يعرفون ماذا تعني محاولات الخروج من عنق الزجاجة التي طوق فيها اللبنانيون الذين لم يشهدوا يوماً على تطبيق صحيح لهذا الاتفاق المفترض أنه كان الخاتمة «السعيدة» لحرب أهلية ضروس بين أبناء البلد الواحد، ووحدهم الذين شهدوا على محاذير مبتدعة عن هذا الاتفاق يعرفون ماذا يعني خروج السياق السائد بالممارسة السياسية عن ما صيروه ثابتة عبر قوى جديدة تفرض حضورها وحصتها بما لا يعتبر مقبولاً بأي لحظة من اللحظات، والحديث هنا عن القوى المسيحية التي دخلت اللعبة السياسية منذ ما بعد عام 2005 واغتيال رئيس وزراء لبنان الأسبق رفيق الحريري وتحديداً القوات اللبنانية بخروج رئيسها سمير جعجع من السجن والتيار الوطني الحر بعودة رئيسه ميشال عون من المنفى.
واحد من العارفين بالصيغة اللبنانية وبطبيعة إدارة العملية السياسية «السائدة» ما قبل ذلك التاريخ في زمن الوجود السوري وهو «الزعيم» وليد جنبلاط أصابوا في إطلاق صيغة التسونامي على دخول التيار الوطني الحر الساحة السياسية اللبنانية ليس لاعتبار هذا الوصف «غزلاً» سياسياً أو اعترافاً بقوة هذا الحضور، إنما لتقدير استباقي منه لحجم الأزمة التي ستدخل إلى الساحة السياسية الأمر نفسه لكن وبشكل مختلف أحاط بعودة القوات اللبنانية إلى الساحة السياسية لكن مع فوارق بالحسابات الاستراتيجية.
بوصول الرئيس ميشال عون إلى الرئاسة، كان للتسونامي ترجمتها الواضحة، فقد تم التثبت من أن القوى المسيحية التي تمثل كتلاً كبرى قادرة على العودة إلى الساحة السياسية والوصول إلى بعبدا من جديد بعد أن كانت آخر هذه القوى ممثلة برؤساء من حزب الكتائب اللبنانية، لكن الذي ثبت هذا المنطق هو تحالف مفصلي ولد بين حزب الله والتيار الوطني الحر جعل من الملف أكثر تعقيداً بتحالف عريض بين قوتين لم تحسبا لاتفاق الطائف «المستحدث» أو غير المطبق أي حساب سوى من بوابة الاستناد إليه كصيغة وحيدة تدير العملية السياسية بالبلاد في حين أن بقية عناصره يعتبرونه تاريخ ولادة زعاماتهم وإماراتهم المحلية وفعلياً بداية حضورهم السياسي الوازن.
وصول «عون» إلى قصر بعبدا يعني أمرين: الأول عودة المسيحيين إلى المشهد السياسي بقوة الحضور لا الاستناد إلى كتل داعمة من الطوائف الأخرى.
الثاني: أن حزب الله هو جهة «شرعية» وفاعلة توصل من يتحالف معها إلى رئاسة البلاد، والأمران يشكلان مقتلاً في حسابات استراتيجية تتحكم بلعبة المحاور في المنطقة وتعني نسف الصيغة تلك، لهذا السبب غالباً ما يسمع حزب الله من خصومه اتهامات من نوع أن هناك أهدافاً مبطنة ينوي الحزب تحقيقها من ضمنها «تغيير الصيغة»، أي نسف الطائف، ونفس الأمر ينطبق على عون وفريقه الذي يرى ضمناً أن الطائف مجحف بحق المسيحيين في الوقت الذي اضطر فيه حزب القوات اللبنانية لاعتبار الطائف مرجعاً «لم يطبق كما يجب»، ما يؤكد رفضه لهذا الواقع ضمناً لولا أن مواقفه مرتبطة بتحالفاته الخارجية تفترض هذه الدبلوماسية.
عرقلة عهد الرئيس ميشال عون لم يكن صدفة ولا يتعلق بمصطلح ساد لدى مؤيديه «ما خلونا» وهو تصغير محلي لممارسة تكتيكية تخفي وراءها عرقلة استراتيجية لمفهوم نجاح حضوره السياسي فيما لو ثبُت، والمسالة لا تتعلق بتحالفه المرفوض عربياً وغربياً مع حزب الله بل تتعلق بمفهوم عون ورؤيته للإدارة السياسية وبالحضور المسيحي في لبنان. كيف لا وللعالم تجربة غير مشجعة معه بعد استلامه الحكومة العسكرية قبل ذهابه للمنفى الفرنسي ونظريته المعارضة للوجود السوري الذي كان يمثل حينها نقطة تقاطع أميركية عربية.
القرار بعرقلة حكم الرئيس ميشال عون هو عرقلة لوجهة سياسية لا لأشخاص، وهو قرار متخذ خارجياً ريثما يتفق المجتمع الدولي على صيغة جديدة تحكم الساحة اللبنانية، وهو ما سمي فرنسياً «العقد الجديد»، بالتالي فبعد أن فتحت المعركة على العهد منذ الاحتجاجات الشعبية في 17 تشرين وما صوبته بوجه الرئاسة، لم يعد سهلاً العودة إلى الوراء بتشكيل حكومة مستقرة قادرة على انتشال العهد من المآزق المتلاحقة، ولذلك فإن القرار الخارجي بعرقلة التشكيلة الحكومية مع معرفة المعنيين بضمانات عون واضح، ولو كان الأمر كذلك لمارست القوى الخارجية المهتمة بتشكيل الحكومة أقصى أنواع الضغوط على كل حليف وصديق للالتقاء على نقطة وسط بدل تسريب أجواء تعطيلية لا يمكن تصديقها في هذه الأجواء الخطيرة كمثل أن «الرئيس ميقاتي شعر بالانزعاج لأن فريق عون سرب معلومات عن بعض الأسماء ما اعتبر إحراجاً له في الشارع السني قبل إعلان التشكيلة الرسمية فعاد ميقاتي أدراجه، أو ما شابه من خلافات على أسماء وحقائب لم تكن يوماً مستعصية عند الخارج الذي عود اللبنانيين على انتظار الضوء الأخضر لتشكيل الحكومة عندما يصبح ذلك ضرورياً.
لم تكن هناك مصلحة بتشكيل حكومة سريعة بعكس البيانات التي صدرت من ممثلي دول كبرى التي استبدلت ذلك بدعم الجيش والأسباب متعددة أبرزها:
إن تشويه صورة بعض الأحزاب لصالح قوى المجتمع المدني هي سبب بديهي كي تصل هذه القوى منهكة وتحديداً التيار الوطني الحر من القوى المسيحية، وهي الساحة التي يلعب التعدد السياسي فيها دوراً أكثر من غيره، حيث اللوائح والخيارات الشبه محسومة طائفياً، بالتالي فإن تأخر كل يوم عن تشكيل الحكومة هو إضعاف للتيار الوطني الحر والعهد حتى الانتخابات.
ثانياً: لا مصلحة بإنجاح عهد يدعمه حزب الله وتكريس الأخير صانعاً للرؤساء وحامياً للرئاسات والعهود الناجحة لا محلياً ولا دولياً، وهي نقطة لا تحتاج الكثير من التوسيع.
وحده الخوف من أمرين أساسيين يأخذ المجتمع الدولي وتحديداً نحوالضغط باتجاه حكومة سريعاً الأول:
مخاوف أوروبية عبر عنها ممثل سياستها الخارجية في زيارته الأخيرة للرئيس عون جوزيب بوريل، تتعلق بزحف النازحين السوريين إلى أوروبا على غرار النموذج التركي، بالتالي بذل جهد غربي لترقيد اللبنانيين بزيارات ومبادرات شكلية ومساعدات إنسانية.
الثاني: أن تفرض إيران حضورها بالساحة اللبنانية بعنوان إنساني قبل التسويات النهائية بالمنطقة، وحتى قبل عودتها للتفاهم النووي مع الغرب، بمنطق «كن فيكون» الذي يفرضه حزب الله عبر إرسال بواخر محروقات إلى سوريا تسد حاجة السوق اللبنانية وتتحول من دولة داعمة للإرهاب إلى دولة منقذة للشعب اللبناني، فتتعزز صورة حزب الله الذي يجهد الغرب وحلفاؤه بضرب حضوره وصورته بلبنان والمنطقة.