عبقرية الجغرافيا تفرض بدء رحلة القرارات الصحيحة
} أحمد بهجة*
في النهاية لا يصحّ إلا الصحيح، ولا بدّ من دمشق مهما طال الزمن… هي عبقرية الجغرافيا كما يُقال، تفرض نفسها عند كلّ محطة مفصلية، حيث تزول كلّ الأشياء المصطنعة لتزهو الحقائق التي لا يمكن لأحد تزويرها أو التلاعب بها.
تغيّر كلّ شيء وبقيت طريق دمشق كما هي لا ولم ولن تتغيّر. وها هي الوقائع تفرض نفسها بعد تضحيات كبيرة ومواجهات قاسية استمرّت سنوات عدة، ليُسلّم الجميع بأن لا حلّ للأزمات المتراكمة التي يعاني منها لبنان إلا بالتوجه شرقاً بدءاً من سورية والعراق وصولاً إلى إيران روسيا والصين…
طبعاً لا يمكن إغفال أنّ مَن فتح الباب لكي ينطلق هذا المسار مجدّداً هو قرار المقاومة في لبنان ومعها القيادتان السورية والإيرانية بكسر الحصار عن الدول الثلاث، وذلك من خلال ما أعلنه الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله عن البدء باستيراد المحروقات من إيران، وانطلاق السفن المحمّلة بآلاف الأطنان من المازوت والبنزين من الموانئ الإيرانية باتجاه لبنان، عبر سورية بحراً وبراً…
وما ان أعلن السيد عن هذا القرار حتى سارعت سفيرة أميركا في اليوم نفسه إلى الإقرار بهزيمة الولايات المتحدة في بيان مقتضب تقول فيه إنها اتصلت برئيس الجمهورية العماد ميشال عون وأبلغته «موافقة» إدارتها على أن يستجرّ لبنان الغاز من مصر والكهرباء من الأردن… طبعاً عبر سورية، لتتأكد مجدّداً عبقرية الجغرافيا.
ولمَن كان يتساءل هل توافق سورية على أن يمرّ الغاز المصري والكهرباء الأردنية عبر أراضيها إلى لبنان، نقول ها هي سورية الأسد تؤكد أصالتها وعروبتها الحقيقية، وتعلن على لسان وزير خارجيتها الدكتور فيصل المقداد بأنها مستعدة لأيّ شيء فيه مصلحة للأخوة في لبنان. هذا هو الموقف الطبيعي والمنتظر من سورية، لكن من حق الوزير المقداد أن يكون بين كلماته بعض الزهوّ بالانتصار الذي حققته سورية وحلفاؤها على أميركا ومَن معها.
أما بعد… فإنّ تحقيق الخطوة الأولى لا يعني اكتمال المشوار، لأنّ إنقاذ الاقتصاد اللبناني يحتاج إلى أن نسير رحلة الألف ميل ونحقق الخطوات تباعاً… وحتى تكون الخطوات اللاحقة صحيحة ينبغي أن تكون من الروحية نفسها التي أتت من خلالها الخطوة الأولى الصحيحة، أيّ أنّ علينا تصحيح اتجاه البوصلة وتغيير وجهة السير واستكمال خطوات التوجّه شرقاً لأنّ فيها الإنقاذ الحقيقي من دون شروط تعجيزية كتلك التي يمكن أن يفرضها صندوق النقد الدولي، الذي في أحسن أحواله وأحوالنا لن يعطي لبنان أكثر من خمسة مليارات دولار موزعة بين ثلاث وخمس سنوات، مع شروط قاسية جداً مثل تخفيض حجم القطاع العام، أيّ أنّ هناك الكثيرين سيصبحون عاطلين عن العمل، وغير ذلك من شروط مماثلة في حجمها وتأثيرها، هذا إضافة إلى ما قد يسعى لفرضه من شروط سياسية…!
أما التوجه شرقاً فسوف يحقق للبنان أضعافاً مضاعفة من ذلك الرقم الهزيل قياساً إلى الحاجات اللبنانية من دون أيّ شروط… لأنّ الانفتاح الاقتصادي على سورية والأردن والعراق، والتكامل الزراعي والصناعي والخدماتي مع السوق المشرقية، والأخذ بالعروض الإيرانية والروسية والصينية، المتعلقة بإنشاء معامل الكهرباء وإعادة تأهيل مصفاتي الزهراني وطرابلس وتشغيلهما، وإنجاز نفق حمانا ـ شتورة وخطوط السكك الحديدية من الجنوب إلى الشمال ومن بيروت إلى دمشق ومنها إلى كلّ بغداد وغيرها من عواصم ومدن العالم العربي، وغير ذلك من مشاريع واقتراحات جرى نقاشها بشكل موسع خلال زيارات إلى لبنان قامت بها وفود من العراق وإيران والصين وروسيا، منها رسمية ومنها تمثل القطاع الخاص في الدول المذكورة، كلّ ذلك يعني مشاريع تفوق قيمة إنشائها وتشغيلها العشرين مليار دولار، ما يؤدّي تلقائياً إلى ضخ حجم كبير من المال في الاقتصاد اللبناني بما يخلقه من فرص عمل ودورة اقتصادية إنتاجية نحن بأمسّ الحاجة إليها، وذلك من دون اللجوء إلى لعنة الاستدانة والفوائد من أجل تغذية اقتصاد ريعي استهلاكي غير منتج.
أما التذرّع بعقوبات من هنا وهناك فهذا لم يعد يجدي نفعاً، لأنّ العقوبات تداعت وسقطت أمام أعيننا وتمّ كسرها بمجرّد انطلاق السفينة الأولى المحمّلة بالوقود من إيران، فكيف بعد أن تصل السفن تباعاً وتفرغ حمولتها وتحقق أهدافها النبيلة… لأنها لا تحمل البنزين والمازوت فقط، بل تحمل معها حفظ الكرامات.