بعد خروجها مباشرةً من أفغانستان أميركا تحاول الدخول مداورةً الى سورية؟
د. عصام نعمان*
لا يمكن عقد مقارنة واقعية بين أميركا ولبنان. أميركا دولة كبرى بكلّ المعايير وعلى جميع المستويات. لبنان دولة صغرى ازدادت صغراً بعد الانهيار الهائل الذي أصابها على جميع المستويات. غير أنه يمكن التوصل الى نتيجةٍ مغايرة إذا ما رصدنا مفارقات لافتة أعقبت خروج أميركا مباشرةً من أفغانستان ومحاولتها الدخول مداورةً الى سورية باستخدام لبنان معبراً. كيف؟
لبنان المنهك، المنهوب، المفتقر الى الأغذية والأدوية والوقود، لا سيما البنزين والمازوت والكهرباء يبحث ما تبقّى من مسؤولين بين حكامه وقياداته الوطنية عن طريقة عملية لتوفير هذه السلع والضروريات. قائد المقاومة السيد حسن نصرالله لاحظ عمق الأزمة وما ترمي إليه أميركا وحلفاؤها المحليون من وراء تأجيجها او محاولة مواجهتها على نحوٍ يخدم أغراضهم. لذا أعلن اعتزام حزبه استيراد مشتقات النفط الإيراني بالليرة اللبنانية، لا سيما مادة المازوت اللازمة لتسيير المستشفيات والأفران والمخابز والمصانع ووسائل النقل وتوليد الكهرباء.
واشنطن كانت للسيد نصرالله بالمرصاد. لاحظت منذ أسابيع استحالة بقاء لبنان في أزمته المدمِّرة من دون ان يسعى خصوم أميركا المحليون والإقليميون الى مخارج لائقة منها. لذا سارعت الى التواصل مع حليفيها الإقليميين، مصر والأردن، بغية الاتفاق معهما على تزويد لبنان غازاً مصرياً وكهرباء أردنية عبر سورية!
مفارقات عدّة تكشّفت عنها مناورات أميركا:
المفارقة الأولى انّ الغاز المصري كان يصل الى لبنان بموجب اتفاق سنة 2008 عبر خليج العقبة الأردني ومن ثم عبر سورية. لكن ما ان اندلعت الحرب الكونية على سورية سنة 2011 واستمرت عشر سنوات حتى قامت أميركا بقطع خط توريد الغاز المصري بغية تشديد الحصار الاقتصادي على سورية.
لبنان، في ضائقته الشديدة، لا يسعه اليوم إلاّ الموافقة على كلّ عونٍ يمكن ان يساعده على الخروج من محنته. لكن كيف السبيل الى قبوله العون وأميركا نفسها (ومعها حلفاؤها المحليون) كانت «أقنعت» الحاكمين في لبنان باعتماد سياسة النأي بالنفس عن سورية. ثم عززتها بتطبيق «قانون قيصر» على سورية الذي يشدّد الحصار الاقتصادي عليها ويحظّر على الدول المجاورة التعامل معها تحت طائلة فرض عقوبات اقتصادية عليها.
المفارقة الثانية انّ حيرة المسؤولين اللبنانيين لم تطل كثيراً اذ سارعت سفيرة أميركا في بيروت دوروثي شيا إلى الهمس في آذانهم المرهفة بأنه جرى تدبّر الأمر مع واشنطن عبر المسؤولين المصريين والاردنيين، وأنّ دمشق لن تمانع في ذلك لأن لها مصلحة في انفتاح الدول المجاورة عليها بعد طول مقاطعة.
تشجّع المسؤولون اللبنانيون فدفعوا بوفدٍ الى دمشق ترأسته نائبة رئيس مجلس الوزراء وضمّ وزيري المالية والطاقة ومدير عام الأمن العام، لإجراء محادثات مع وزير خارجية سورية ومعاونيه لم تستغرق سوى ساعتين، أكّد خلالها المسؤولون السوريون تجاوبهم مع طلب لبنان وموافقتهم على تأليف لجنة مشتركة لتحديد الإجراءات الفنية والعملية لتسهيل مرور الغاز المصري والكهرباء الأردنية الى لبنان عبر الأراضي السورية.
المفارقة الثالثة انكشاف أمر الغاز المصري الذي تبيّن ان ليس كله مصرياً. ذلك أنّ الأردن يستخدم الغاز «الإسرائيلي» الذي يصله عبر المنطقة الشمالية من الحدود مع سورية (في محلة الخناصري الشمالية التي تبعد نحو 33 كيلومتراً عن مدينة درعا السورية). ما العمل؟ المسؤولون الأردنيون أكدوا لدمشق انّ الملك عبد الله الثاني كان تدبّر، خلال زيارته الأخيرة لواشنطن، الحصول من الرئيس جو بايدن على إعفاء الأردن ومصر وبطبيعة الحال «إسرائيل» من مفاعيل عقوبات «قانون قيصر»!
المفارقة الرابعة انّ توصيل الغاز المصري والكهرباء الأردنية الى لبنان يتطلّبان أعمال تأهيل فنية في محطة وصل الشبكة السورية مع الشبكة اللبنانية في منطقة المصنع اللبنانية، كما يتطلّب موافقة السلطات السورية التي يمكن ان تفرض رسوم عبورٍ، علماً انّ الأشغال المشار إليها آنفاً تتطلّب استثماراً قد يصل الى مبلغ 40 مليون دولار، فمن تراه يغطي المبلغ؟
المفارقة الخامسة انّ سفيرة أميركا في بيروت صرّحت ان اية رسوم عبور قد تستوفيها سورية لقاء تمرير الغاز المصري والكهرباء الأردنية عبر اراضيها الى لبنان يجب ألاّ تذهب الى الخزينة السورية بل الى مشروعات إغاثة إنسانية تُنفذ في مناطقها. والغريب انّ تصريح السفيرة الأميركية سبق أيَّ اعلان عن مواقفة حكومة دمشق على كلّ تلك الترتيبات المتعلقة بتمرير الغاز المصري والكهرباء الأردنية عبر أراضيها إلى لبنان، وكأنّ السفيرة تريد القول إنّ كلّ تلك التسهيلات المُراد اعتمادها لتزويد لبنان بالغاز والكهرباء ستجري مع بقاء «قانون قيصر» ساري المفعول بقبول ضمني من سورية!!
الحقيقة أنه سواء جرى الاستحصال مسبقاً على موافقة سورية بواسطة القاهرة وعمّان على تمرير الغاز المصري والكهرباء الأردنية عبر أراضيها الى لبنان ام لم يتمّ بعد فإنّ قيادة سورية السياسية لن تبلغ بها البساطة، رغم صدق نياتها الطيبة نحو لبنان، حدّاً تسمح معه للولايات المتحدة بالاستمرار في محاصرة شعبها وإنهاكه بـ «قانون قيصر»، لا سيّما بعد خروجها المهين من أفغانستان وربما خروجها من كلّ دول غرب آسيا عاجلاً او آجلاً…
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*نائب ووزير سابق