حدث ذات مرة في «لوبورجيه»
بشارة مرهج*
إذا صدق خبر ضبط 95 ألف يورو في حقيبة حاكم البنك المركزي الأستاذ رياض سلامة إثر هبوط طائرته في مطار «لوبورجيه» الفرنسي فنحن أمام حدث خطير لا يمكن تخطيه أو تجاهله، لا سيما أنه يتعلق بمسؤول مالي كبير من لبنان تدور حوله التساؤلات والشبهات ويتابع عمله دون اكتراث بالرأي العام أو التحقيقات القضائية التي يتعرّض لها في لبنان وعدد من الدول الأوروبية.
أما إذا كان الأمر يتعلق بآفة النسيان كما ادّعى سلامة أمام الجمارك الفرنسية فالأمر للوهلة الأولى قابل للاستيعاب لأنّ هذه الآفة يصعب ان ينجو منها شخص يتقدّم به العمر، وخاصة اذا كثرت أعماله وتشعّبت حساباته وتعدّدت تحويلاته وتوسّعت محاولاته لحماية نفسه وأعوانه عبر الهروب الى الأمام والاستمرار في تنفيذ السياسة ذاتها التي ساهمت في تضخيم الفوائد وزيادة الدين العام وانهيار العملة اللبنانية ومعها ودائع ومدّخرات ومداخيل كل الذين صدّقوا البيانات الكاذبة والتصريحات المواربة وذلك السيل من الجوائز الذي كان ينهمر من مواقع أوروبية ودولية على حاكم البنك المركزي، منوّهاً به وبحذاقته في إدارة وحماية النقد الوطني.
لكن التذرّع بآفة النسيان ليس مركباً سهلاً وإنما هو مركب خشن لأنّ المرء متى ثبتت إصابته بتلك الآفة يصبح معرّضاً لتقليص ساعات العمل أو تغيير نوعية العمل نفسه، لأنّ الإحصاءات والفوائد والحسابات كلها تتطلب عيناً ثاقبة وذهناً حاضراً، فكيف عندما يكون المعني مسؤولاً عن حسابات البنك المركزي واستطراداً حسابات المصارف ومضطراً لمتابعة كلّ شاردة وواردة في شؤون الدولة المالية، بما فيها الميزان التجاري، وميزان المدفوعات، والقروض والفوائد، ومعدلات النمو، والتضخم، وإلى ما هنالك من شؤون خطيرة كمراجعة حسابات البنك المركزي نفسه وصدقية عمل شركتي التدقيق المالي الأجنبيّتين اللتين كانتا تصدران التقارير الدورية المطمئنة عن هذه الحسابات.
أما اذا كان «النسيان» ذريعة للخروج من المأزق الذي وقع فيه الحاكم لدى هبوطه من الطائرة فإنّ الأمر خطير جداً ولا يجوز للسلطات اللبنانية نفسها ان تتغاضى عنه مهما كان موقف السلطات الفرنسية.
لن نستبق التطورات وتحركات القضاء والهيئات المعنية، خاصة أننا أمام استحقاق خطير انتظره اللبنانيون طويلاً يتعلق بالمباشرة في إجراء التدقيق المالي الجنائي في حسابات البنك المركزي، ومن ثم سواه من مؤسسات الدولة التي ضلت الطريق واهتمت بالحكام وأهملت أهل البلاد واضطهدتهم ولا تزال.
وهذا التحقيق لا يجوز بأيّ حال من الأحوال أن يغيب مهما كانت الاعتبارات لا سيما بعد إزالة كلّ الألغام والذرائع التي زرعت في الطريق من قبل متضرّرين محتملين وهم كثرة في طبقة الواحد بالمئة التي نهبت الدولة وأموال المودعين ولا تزال ترفض إعادة ما نهبته أو هرّبته الى الخارج مستفيدة من تواطؤ الطبقة الحاكمة اللبنانية وسكوت البيوت المالية «العريقة» في العالم والتي من مصلحتها الاستفادة من الأموال المودعة لديها وإنْ كانت هذه الأموال لا سند قانوني حقيقي يدعمها.
يقول علماء النفس إنّ المرء الذي ينسى أمواله هنا وهناك ولا ينتبه أين يضع تلك الأموال معناه أنّ لديه الكثير الكثير مما يعرف عنه ومما لا يعرف عنه بعدما تراكم هذا المال وأصبح يطرح إشكالية في التعامل معه بدون خطأ من هنا أو هناك، في حين انّ الذي تعب وعانى في جمع ثروته المشروعة يعرف أين وضع كلّ فلس ولا يمكن له أن ينسى مبلغاً كبيراً دسّه ذات مرة في قعر حقيبة.
خلاصة القول: إذا كان الحاكم ينسى فتلك مصيبة، واذا كان الحاكم يتذرّع بالنسيان فالمصيبة أعظم.