سورية ولبنان… انتصار التاريخ والجغرافيا
} د. حسن مرهج
المتابع الحقّ لنمط وماهية العلاقة السورية اللبنانية، يُدرك بأنّ هذه العلاقة لا تُعدّ من القضايا المعقدة، ولا يُمكن لعلاقة تحكمها جُزئيتي التاريخ والجغرافيا، أن تُقطع جراء تجاذبات سياسية ظللت المشهدين السوري واللبناني، وبذات التوقيت، فإنّ السياق العام لعمق العلاقة السورية واللبنانية، يؤسّس لمعادلة لا تؤطرها أيّ تحديات أو أزمات، ودليل ذلك، تداخل التاريخ مع الجغرافيا، الأمر الذي يُعدّ تعميقاً لتلك العلاقة على المستويات كافة.
مع بداية ما يُسمّى الربيع العربي، دأبت واشنطن ومحورها، علي تقطيع أوصال الجغرافيا، ووضع التاريخ ضمن بوتقة الأجندة الأميركية، بمعنى، أنّ الإدارة الأميركية وضمن ما يتسق مع خططها في المنطقة، أوعزت لمحورها في لبنان، بالعمل على تعميق الخلاف مع سورية، لسببين أحدهما استهداف العمق الاستراتيجي للمقاومة اللبنانية، والآخر، وضع الدولة السورية أمام اختبار مفصلي لجهة نسف علاقتها مع عموم لبنان، والبحث عن طريق يوصل دمشق إلى البيت الأبيض، لكن القيادة السورية، أدركت وبشكل مسبق، جوهر الخطة الأميركية، وأبقت أبواب دمشق مُشرعة لأشقائها في لبنان، دون المساس بعمق العلاقة السورية اللبنانية، والتي كانت في حالة استرخاء سياسي إنْ صحّ التعبير، على الرغم من عديد المحاولات، التي ارتكزت على ضرب واستهداف الدولة السورية من الداخل.
كما ذكرنا، فإنّ العلاقة السورية اللبنانية، يتداخل فيها التاريخ مع الجغرافيا، والمصالح مع العواطف، والمعطيات السياسية المحلية مع البيئة الاقتصادية العالمية والإقليمية، لكن، يُمكن تلخيص كلّ هذه العوامل في مستويين اثنين:
الأول سياسي ـ اقتصادي آني، يرتبط بتلمّس آفاق العلاقات بين البلدين.
الثاني تاريخي ـ استراتيجي بعيد المدى، له علاقة بالديناميات التي تتحكّـم بطبيعة العلاقات بين هذين البلدين التوأمين، اللذين وصفهما الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد بأنهما «شعب واحد في دولتين».
الرئيس بشار الأسد، وإبان استقباله وفداً لبنانياً في وقت سابق، قال «ما معنى النأي بالنفس وكيف للواحد أن ينأى بنفسه عن نار تأكله، هذه النار تحرق كلّ الجسم كيف يمكن لك أن تنأى بنفسك عنها. فإذا لم نقل العامل التاريخي هناك العامل الجغرافي.»
وعطفاً على رؤية وقراءة الرئيس الراحل حافظ الأسد، وكذا الرئيس بشار الأسد، وبكلمات أوضح، فإنه لا يُمكن لأيّ محاولات أميركية، وأيّ قوانين حصار جائرة، أن تقطع الطرق بين دمشق وبيروت وبالعكس، وإنْ شهدت هذه العلاقة فتوراً سياسياً جراء تحاذبات سياسية لبنانية، لكن الحقائق التاريخية والجغرافية لا تُمحى بمحاولات أميركية بائسة ويائسة، وإنْ فسدت السياسية، فإنّ الاقتصاد يبقى حاضراً وبقوة بين البلدين، الأمر الذي من شأنه إعادة الحياة للسياسة بين البلدين.
بالتالي، ومن بوابة الاقتصاد والمستجدات التي فُرضت أميركياً وسعودياً على لبنان واللبنانيين، كانت الرئة السورية بمثابة المتنفس الوحيد، ما يعني، أنّ زيارة الوفد اللبناني إلى دمشق، والأجواء الإيجابية التي سادت المباحثات بين الجانبين السوري واللبناني، قد يضع البلدين مجدّداً على سكّـة التكامل والاندماج، وفي العمق، فإنّ قدر هذين البلدين أن يلتقيا أبداً، وهذا القدر لا مفرّ منه.
من المهمّ أن نذكر ما قالته إليزابيث بيكارد، مديرة مركز الدراسات العربية والإسلامية في باريس: «منذ أن برز لبنان وسورية كدولتين مستقلّـتين، كان واضحاً أنّ الاقتصاد الذي وحّـد بينهما لقُـرون طويلة، ستكون له اليد العُـليا في كلّ التطورات بينهما وأنّ الاعتماد المتبادل بينهما، المستند إلى الاستمرارية الجغرافية والاقتصادات الحديثة، سيستمر بشكل حثيث».
حقيقة الأمر، أنّ الزيارة اللبنانية إلى دمشق، أكدت المؤكد، بأنّ دمشق وبيروت عنواناً لا يُمكن كسره، وأنّ عمق الروابط بين البلدين، سيبقى حاضراً عند أيّ استحقاق بمعناه الجيو استراتيجي، وهنا نقول، بأنّ هذه الزيارة وبعناوينها، ما هي إلا تكريس حقيقي وواقعي، للعلاقات العميقة بين البلدين، كما أنّ سورية ولبنان هما نواة لأمة واحدة، وتكتل سياسي واقتصادي واحد، ولا نبالغ إنْ قلنا، أنه من الضروري أن تُلغى الحدود تماماً بين سورية ولبنان، وأن تُغلق السفارات، وأن تندمج الاقتصادات بين جغرافيتهما، بدل أن يذهب البعض في لبنان إلى الشحاذة من واشنطن ومحورها.
في ذات الإطار، وعطفاً على عمق العلاقة السورية اللبنانية، هُندست معادلة المقاومة، لتكون عاملاً إضافياً يُعزز تلك العلاقة، خاصة أنّ الضرورات التي فرضتها الوقائع المحيطة بالموقع الجغرافي لكلّ من سورية ولبنان، أرخت بمعطيات جديدة، كان لا بدّ من التعامل معها، وفق رؤية استراتيجية جديدة، وهي تدخل في صلب استراتيجية المقاومة، لا سيما أنّ الحصار الذي فُرض على سورية، له منعكسات على لبنان، وبالتالي دأبت المقاومة اللبنانية، على استثمار أوراق قوتها، في فرض معادلة أجبرت الإدارة الأميركية، على قلب الوقائع، وتقديم تنازلات كان عنوانها الأبرز، انكسار الحصار، الأمر الذي أعطى بُعداً ذات أبعاد استراتيجية لجهة زيارة الوفد اللبناني إلى دمشق، وبلا ريب، هي زيارة ستتبعها زيارات أُخرى، ستعمل في أطر تعزيز التعاون وتعميق التحالفات.
والحقيقة التي لا لبس فيها، أنّ مسألة العلاقات بين لبنان وسورية، هي قضية ضاربة في التاريخ والجغرافية، والرسائل التي وصلت للجميع من خلال زيارة الوفد اللبناني إلى دمشق، رغم كلّ الفتور الذي شهدته تلك العلاقات، ورغم معارضة بعض الأفرقاء اللبنانيين، ورغم كلّ المحاولات لقطع العلاقة السورية اللبنانية، إلا أنّ معادلة التاريخ والجغرافية التي تربط دمشق وبيروت، لا يُمكن لأيّ أجندات أن تكسرها.