أولى

الملتقى العربي من أجل لبنان المقاوم: من التحرير إلى التغيير…

 د. زياد حافظ*

يعقد المؤتمر العربي العام في العاشر من أيلول/ سبتمبر 2021 ملتقى افتراضياً عبر الزوم عنوانه «الملتقى العربي من أجل لبنان المقاوم ضدّ الحصار والاحتكار والفساد». وهذا المؤتمر يضمّ كلاً من المؤتمر القومي العربي والمؤتمر القومي الإسلامي ومؤتمر الأحزاب العربية والهيئات النقابية العربية. ويأتي هذا الملتقى في أعقاب سلسلة من الملتقيات لدعم المقاومة في العراق وفلسطين وكسر الحصار والعقوبات على سورية وغزة واليمن ومناهضة التطبيع. عنوان الملتقى يختزل يقين الصراع القائم في لبنان والمنطقة حيث احتلال الكيان الصهيوني يجسّد في وجوده السبب الرئيسي والأول لأزمات الوطن العربي وليست القضايا الأخرى التي يُراد أن تكون البديل عن الصراع مع الكيان.

 فلبنان في عين العاصفة التي يشكّلها الصراع العربي الصهيوني حيث الانقسام العربي حول الصراع هو أمّ الخلافات العربية، وأنّ وجود الكيان الصهيوني المحتل هو سبب كلّ أحداث اللاستقرار التي سادت وتسود المنطقة العربية من محيطها إلى خليجها. فلا تنمية في ظل التجزئة ولا وحدة في ظل الكيان ولا قوة ولا نهضة في ظل الضعف والتجزئة.

والنموذج اللبناني المقاوم يشكّل نقيض الوجه الآخر له الذي ترسّخ بعد الحرب العالمية الثانية، وبخاصة في حقبة الطائف حيث لبنان بلد الخدمات المالية والترفيه لا غير. مقاومة الاحتلال ثم طرده كانت بمثابة الحسكة في حناجر الحكام العرب الذي بنوا مواقفهم السياسية في ما يتعلّق بالصراع مع الكيان بأنّ أوراق اللعبة تملكها الولايات المتحدة وأن البوّابة للحصول على رضا الولايات المتحدة هو عبر الكيان الصهيوني المحتل. من الواضح إذن أن يشكّل النموذج اللبناني المقاوم إشارة واضحة أن خيار المقاومة هو خيار جدّي وممكن وناجح بينما الخيار الآخر هو وهمي وفاشل. فكان لا بد لكل من الغرب وفي طليعته الولايات المتحدة والكيان الصهيوني المحتل وبعض الدول العربية تلقين درس للبنان. فكان العدوان في تموز 2006 الذي انتهى بهزيمة الكيان باعتراف قادة العدو وإن لم يعترف بذلك بعض الرموز اللبنانية الرافضة لخيار المقاومة. ما زال في لبنان قوى سياسية معادية بشكل واضح وصريح للمقاومة وتعمل بالتنسيق مع الولايات المتحدة لاحتواء المقاومة تمهيداً لضربها. فالحصار الاقتصادي والمالي على لبنان من قبل الولايات المتحدة وبعض الدول العربية وبتنفيذ أدوات لبنانية أدّى إلى الحالة الكارثية الاقتصادية والاجتماعية التي يمر بها لبنان.

قرار الأمين العام لحزب الله باستيراد المشتقات النفطية من الجمهورية الإسلامية في إيران للبنان قرار أثار فرحة أكثرية اللبنانيين وأغضب أولئك الذين يسهمون في تعميق المآسي المعيشية على اللبنانيين، تنفيذاً لأجندة الكيان الصهيوني المحتل وللدولة الراعية له وللمصالح الشخصية والذاتية العائدة لهم.  لكن بعيداً من السجال حول المستفيد والمتضرر من ذلك القرار لا بد من قراءة سياسية اقتصادية لأبعاده، بخاصة في الظروف التي يمر بها لبنان. فالقرار جاء في سياق مسار مقاوم للهجمة الأميركية على لبنان مباشرة وعبر أدوات عربية ولبنانية بدأت بالعشرية الماضية وما زالت.

خطة بومبيو لإخضاع لبنان تركّزت على الانهيار المالي والاقتصادي والفراغ السياسي. استطاع اللبنانيون التكيّف مع الحصار المالي والاقتصادي وكانوا قد مرّوا بظروف مشابهة في ما يتعلّق بالفراغ السياسي، سواء في غياب حكومة أو حتى في غياب الرئاسة. لكن حجر الزاوية للحصار كان حظر مصادر الطاقة سواء عبر تجفيف شرايين التمويل أو عبر التشجيع على الاحتكار وتخزين المواد الضرورية لتشغيل الطاقة. وهذا ما لم يستطع اللبنانيون تحمّله، فكان لا بد من قرار جريء لكسر الحصار على الطاقة للبنان. وهنا تكمن أهمية استيراد المشتقات النفطية من إيران.

فكسر الحصار على الطاقة هو في الأساس جزء من المقاومة لأن الحصار هو لخدمة الكيان ومن أجل الكيان الصهيوني المحتل. فالحرب الاقتصادية والمالية هي في الدرجة الأولى حرب على المقاومة كما هي حرب على لبنان. لا ننسى أن الحرب الاقتصادية على لبنان بدأت بالستينات من القرن الماضي (أي قبل وجود المقاومة!) عبر الهجوم على النظام المصرفي الذي اختلف آنذاك عما أصبح في حقبة الطائف. فالهجوم على عدة مصارف مملوكة من رأس مال عربي (فلسطيني في معظمه) كبنك إنترا وبنك الأهلي وبنك الرهونات وبنك يونيفرسال كان تمهيداً لقطع الطريق على تحويل لبنان لمركز مالي. أما اليوم، فبفضل سوء إدارة النظام المصرفي اللبناني بشقيه الرسمي والخاص تمّ القضاء على النظام المصرفي. رب ضارة نافعة لأن ذلك النظام لم يكن في يوم من الأيام قيمة مضافة للتنمية الاقتصادية في لبنان كما شرحناه في مقاربات عدة.

أما اليوم فكسر الحصار على المشتقات النفطية الضرورية للحياة هو خطوة أولى في مشروع طويل المدى لتغيير اقتصادي وليس فقط لإصلاح اقتصادي. فالنظام الاقتصادي القائم كالنظام السياسي غير قابل للإصلاح، لكن موازين القوة الداخلية مع نظيراتها الإقليمية والدولية لم تسمح حتى الساعة بالتغيير. لكن الإفراط بالحصار الاقتصادي على لبنان قد يفرض ضرورة التغيير وليس فقط الإصلاح، كما أن موازين القوّة الداخلية والإقليمية والدولية قد تسمح بالتغيير.

إلى أن تتبلور تلك المعادلة الجديدة التي نعتقد أنها لن تطيل بعد التحوّلات الدولية، وبخاصة بعد الانسحاب الأميركي من أفغانستان، فيمكن طرح بعض الأسئلة التي تنذر بالتغيير المرتقب. فعلى سبيل المثال ماذا يمنع كسر احتكار تجارة الأدوية في لبنان إذا نجح كسر احتكار المشتقات النفطية؟ فكسر احتكار الدواء يفتح أيضاً مجالاً لكسر اقتصاد مبني على الوكالات الحصرية لاستيراد مواد أساسية للاقتصاد الوطني. إذا كرّت المسبحة فكيف يمكن التمسّك باقتصاد ريعي عبر الاحتكار ومبني على الانكشاف تجاه الخارج الذي يشجع الاحتكار؟ أليس عندئذ من المنطقي أن يبادر اللبنانيون بإنتاج ما كان محتكراً من قبل قلّة من المستوردين؟ فالاقتصاد المتنوع أمتن من الاقتصاد المرتكز على مصدر واحد كالاقتصاد الريعي.

وإذا التغيير الاقتصادي يحصل كـ «واقع» تفرضه «قوى أمر الواقع» أليس يشكّل ذلك مدخلاً لتغيير سياسي على الأقل لمواكبة الحقائق الجديدة على الأرض؟ حتى الآن كان حرص «قوى الأمر الواقع» على تثبيت السلم الأهلي وعدم إعطاء أي ذريعة للإخلال به. لكن الحصار على الطاقة أخلّ بالسلم الأهلي، بالتالي كسر الحصار قد يعيد السلم الأهلي، ولكن مع قيمة مضافة وهي خسارة ورقة الابتزاز الطائفي والمذهبي التي تستعملها الولايات المتحدة وأدواتها العربية واللبنانية. فما سمعناه من مدح لقرار استيراد النفط من إيران في أوساط كانت معبّأة ضد إيران والمقاومة يشير إلى أن إمكانية إحداث ثغرة في جدار التعصّب المذهبي أمر ممكن.

فماذا يمنع أن تتحوّل «قوى الأمر» الواقع إلى فعّاليات اقتصادية تنشئ المؤسسات المالية والتجارية ذات المنفعة العامة وليست لمصدر الثراء والجشع؟ نقول هذا لأن تأثير كسر الحصار على اللبنانيين سينجر إلى الانتخابات اللبنانية المقبلة وهي بعد بضعة أشهر. فماذا يمنع أن تُقام لوائح انتخابية تتبنّى سياسة كسر الحصار وما ينتج من ذلك للمجيء بقوى سياسية تستطيع القيام بالتغيير في كل من النظام السياسي والاقتصادي؟

لا نريد الاسترسال في ما يمكن أن يحصل، ولكن من الضروري التوقف والتأمل عما سيسفر بعد نجاح كسر احتكار المشتقات النفطية الضرورية لتفعيل ليس فقط الحياة بشكل عام بل الدائرة الاقتصادية بكاملها. ومن ضمن المواضيع التي ستفرض نفسها هي أهلية وكفاءة من استطاع أن يكسر الحصار ويؤمّن السلع الضرورية لكل اللبنانيين في جميع المناطق وخارج إطار المحاصصة المعهودة والتي دمّرت الحياة السياسية في لبنان. أليس كسر الحصار بمثابة جسر يعبر عبره اللبنانيون تجاه بعضهم بغض النظر عن مشاربهم السياسية، بل ربما يؤدّي إلى إعادة النظر بمواقف مسبقة من «الآخر» اللبناني؟

أما على الصعيد السياسي ألا يشكّل الحصار بداية سيادة فعلية في القرار الاقتصادي الوطني تمهيداً لسيادة في القرار السياسي؟ ألا يشكّل كسر الحصار هزيمة للسلطة ومكوّناتها الطائفية والمذهبية التي احتجزت لبنان واللبنانيين؟ من هنا تأتي أهمية الملتقى لدعم لبنان المقاوم للحصار والاحتكار والفساد. فالدعم الشعبي العربي يشكّل عاملاً حاسماً في ميزان القوّة في المواجهة التي يخوضها محور المقاومة. ونجاح فك الحصار هو هزيمة استراتيجية للمحور المعادي للمقاومة والجماهير العربية مدعوة لتعبّر مرّة أخرى عن دعمها لخيار المقاومة. الدعم الشعبي العربي استطاع خلال سنوات عجاف تغيير مسار قرارات النخب الحاكمة كرفض إدراج المقاومة على جدول الأعمال كإرهاب في مؤتمر القمة العربية الذي عُقد في موريتانيا في نواكشوط عام 2016.  بل أكثر من ذلك، فإن نجاح فك الحصار قد ينذر بتغيير كبير ليس فقط في المعادلات الاقتصادية المفروضة من قبل الدول الغربية والنخب العربية التابعة لها بل بإطلاق حركة تحرّرية شاملة في بعدها الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والثقافي. فالمقاومة ليست محصورة بتحرير الأرض من المحتل بل أيضاً أصبحت مسؤولة عن تحرير العقل من الاحتلال الغربي. هذا هو التحدّي الذي يواجهنا جميعاً، وهذا ما يحمله الملتقى من ذخيرة في تلك المعركة التحرّرية الصعبة ولكن الواعدة جدّاً.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*باحث وكاتب اقتصادي سياسي والأمين العام السابق للمؤتمر القومي العربي وعضو الهيئة التأسيسية للمنتدى الاقتصادي والاجتماعي

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى