الأسد الاستراتيجي.. هابوك.. فحاربوك..
سماهر الخطيب
منذ أن تسلّم الرئيس السوري بشار الأسد مقاليد الحكم في تموز من عام 2000، بدأت معظم مراكز الدراسات العربية والغربية والأميركية عبر أبحاثها ودراساتها حول شخصية الرئيس الجديد لسورية وطريقة حكمه طرح العديد من السيناريوات التي حاول معدّوها في الغرف السوداء عرض أفكارهم وآرائهم حول شخصية الرئيس الأسد وكيفية السيطرة على سورية من خلال تفنيد سياساته وقراراته والبحث في تطلعاته.
شكل مجيء الرئيس بشار الأسد إلى سدة الحكم، مع ما يحمله من أفكار، استمرارية لمسار والده الرئيس الراحل حافظ الأسد وتطويراً لمدرسة الأب بما يحمله الإبن من أفكار استراتيجية عصرية، الأمر الذي شكل هاجساً لدى صناع السياسة وأصحاب القرار في المجتمع الدولي، خاصة أنه عبّر، مع أول خطاب له، عن رغبته في تحرير النظام السياسي والاقتصادي وتعزيز الديمقراطية في الداخل السوري، معلناً نيّته إطلاق عمليات لبرلة اجتماعية واقتصادية وقد أعطى الأولوية للإصلاحات الاقتصادية بهدف خلق الشروط الملائمة للدمقرطة السياسية اللاحقة، فعُرفت بداية عهده بـ(ربيع دمشق)، وباتت سياساته هدفاً للسياسة الأميركية التي لم تُرِد سورية قوية كعهدها.
لم يحدّد الرئيس الأسد فقط نهج سورية في المجالين الاقتصادي والتقني بل حدّد مسارها الديمقراطي؛ مسارٌ لم يكن مستنسخاً عن الغرب، بل هو خاص بسورية تستمده من تاريخها وتحترم عبره مجتمعها. وقال في موضوع الديمقراطية: «لايمكننا أن نطبّق ديمقراطية الآخرين على أنفسنا، فالديمقراطية الغربية على سبيل المثال، هي نتاج تاريخ طويل أثمر عادات وتقاليد تميّز الثقافة الحالية في المجتمعات الغربية. ولتطبيق ما لديهم علينا أن نعيش تاريخهم مع كل أهميته الاجتماعية، كما أنّ من الواضح أن هذا مستحيل، ينبغي أن نمتلك تجربتنا الديمقراطية التي هي خاصة لنا وهي استجابة لحاجات مجتمعنا ومتطلبات واقعنا».
كما انتقد الرئيس بشار الأسد منذ استلامه مقاليد الحكم «بيروقراطية الدولة» معتبراً أنها «عقدة رئيسية أمام التطور»، قائلاً: «لا تعتمدوا على الدولة ليس لديها عصا سحرية وعملية التغيير تتطلب عناصر لا يملكها شخص واحد.. السلطة بلا مسؤولية هي السبب في الفوضى» وتابع: «يجب أن نحرر أنفسنا من تلك الأفكار القديمة التي غدت عقبات، ولننجح نحتاج إلى تفكير حديث.. قد يعتقد بعضهم أنّ العقول المبدعة ترتبط بالعمر وأنها يمكن أن توجد مع العمر غير أنّ هذا ليس دقيقاً تماماً فلدى بعض الشباب عقول قوية حية وخلاقة».
خارجياً، بدأت القيادة السورية تعمل جدياً على وضع استراتيجية سياسية خارجية للبلاد، فأولت اهتماماً لروسيا والصين دولياً، ولإيران وتركيا إقليمياً، مع الحفاظ على مكانة سورية في التعاون العربي – العربي وتعزيزه، بهدف تشكيل ائتلاف لاحق يمنع الانتشار الأميركي وتمركزه في المنطقة ويحول دون إعادة توزيع القوى في الشرق الأوسط لصالح هذا التمركّز.
حينها، تخطّت سورية العديد من الصعوبات التي واجهتها منذ 2001، فعززت دعمها للمقاومة في لبنان وفلسطين واستقرّ وضعها الداخلي وحافظت على علاقاتها مع الداخل العراقي وتعاونت مع طهران وتركيا لبناء شبكة إقليميّة. وطيلة الفترة الممتدّة بين 2001-2006، واجهت سورية زلازل إقليمية عديدة كانت تنذر بالسوء والأخطار الكبيرة عند كل منعطف.
ثم بدأ الوضع بالتحسن منذ خريف 2006 وخرجت سورية من دوامة الأزمات والعقوبات التي فرضت عليها، وأخذت تتعافى تدريجياً وتستعيد حيويتها الإقليمية في الأعوام 2007 و2010 وتجدّدت علاقاتها العربية، خاصة مع لبنان والعراق، ومدّت جسوراً مع أوروبا والولايات المتحدة وتعمّقت تحالفاتها، وفي الوقت عينه، واصلت دعمها للمقاومة في العراق ولبنان وفلسطين. كما بدأت رؤية سورية الاستراتيجية لربط البحار الخمسة، المتوسط والأحمر والخليج والأسود وقزوين، بشبكة تعاون إقليمية، من خلال إقامة شبكات ربط للنقل البحري بين المرافئ السورية ونظيراتها في كل من رومانيا وأوكرانيا، أو من حيث ربط شبكات إمداد الطاقة الكهربائية أو الغاز العربية مع منظومة الطاقة الأوروبية عبر تركيا، كخطّ الغاز العربي الذي يتم العمل على ربطه بمنظومة الغاز التركية عبر سورية، وبالتالي بمنظومة الغاز الأوروبية، ليس هذا فحسب، بل إن هذه الرؤية تلقى دعماً من قادة الدول الإقليمية التي تشكل عناصر أساسية في هذا الفضاء الاقتصادي وينظر إلى توسيعه لربطه مع الدول المطلة على بحر البلطيق الأمر الذي يقع في صلب الرؤية الاستراتيجية لسوري، ومن ينظر إلى المشروع الصيني يدرك أنه استكمال لتلك الاستراتيجية.
تبيّن للرئيس بشار الأسد حال الفراغ الاستراتيجي الناجم عن الأزمات التي لحقت بالدور والوجود الأميركيين في المنطقة، قارئاً وجود تحوّل كبير في معادلات الجغرافيا السياسية وعلومها، مستنتجاً سقوط مفهوم الشرق الأوسط، مورداً البديل لمفهوم الأقاليم الجديدة، مقدّماً صياغته لمنطقة إقليمية تحلّ مكان مفهوم الشرق الأوسط هي منطقة البحار الخمسة، وفيها تصير روسيا وإيران وتركيا ودول أوروبا المتوسطية شركاء في إقليم جغرافي واحد، مخاطره واحدة ومصالحه متقاربة، داعياً إلى منظومة تعاون إقليمية بين القوى الكبرى لحفظ الأمن وقيام التعاون الاقتصادي.
في سبيل ذلك، أجرى الرئيس الأسد في 2 كانون الأول 2010 مباحثات في القصر الرئاسي في كييف مع الرئيس الأوكراني فيكتور يانوكوفيتش في سبيل تفعيل تلك الاستراتيجية عبر توقيع اتفاقية التجارة الحرة بين البلدين، ما أثار الغضب الغربي والأميركي الذي كانت له رؤيته الخاصة للشكل الذي ينبغي أن تتطور الأمور عليه. فكان هدف واشنطن فرض رقابة لصيقة على العمليات الجارية في الشرق الأوسط وكان أحد شروطها المركزية إضعاف إيران، إنما سارت الخطوات السورية الموجهة نحو توحيد قدرات الدول الإقليمية الكبرى بالتعارض مع المخططات الأميركية، فوقفت دمشق «عثرة» أمام تحقيق الاستراتيجية الأميركية في المنطقة.
تمّ التأكيد على التحالف الاستراتيجي بين إيران وسورية في نهاية شباط 2010، وقام الرئيس الإيراني حينها محمود أحمدي نجاد بزيارة هامة إلى دمشق التقى فيها الرئيس بشار الأسد والأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله، كما التقى رئيس المكتب السياسي لحركة حماس خالد مشعل والأمين العام لحركة الجهاد الإسلامي رمضان شلح، وأعلن الرئيسان الإيراني والسوري عن «التوحد أمام التحديات والتهديدات، وأنّ أيّ حركة يمكن أن ترفع التوقعات في الدراما الدولية في ما يتعلق بأيّ من الدولتين».
كما أعلن الرئيس الإيراني أنّ «على العالم أن يعرف أنّ إيران ستقف خلف الشعب السوري إلى النهاية، وأن الروابط الإقليمية قوية للغاية». وأشارت أحداث اللقاء إلى أنّ حلفاً استراتيجياً يتكون ويتأكد، ويشكل جبهة جديدة في مواجهة التحالف الأميركي – «الإسرائيلي» ومن يسانده من العرب والقوى الأخرى.
أدرك الأميركيون حينها، أنهم إن لم يوقفوا عمليات توزع القوى الجديد في المنطقة فإنهم مضطرون للتعامل مع إقليم جديد تماماً وعلى درجة عالية من التضامن ومن المستبعد أن يكون مستعداً للخضوع لإدارتها بلا قيد أو شرط.
ويمكن لمتتبع السياسة الأميركية تجاه سورية أن يعلم مسبقاً أنها لطالما دأبت على محاولات «إخضاع» الدولة السورية والتغيير «القسري» للنظام، واهتم المحافظون الجدد بإمكانية السعي إلى فرض تغيير قسري للنظام في سورية. ففي عام 1996 نشرت مجموعة من المحافظين الجدد الأميركيين، بينهم دوغلاس فيث وريتشارد بيرل، تقريراً قدّمت فيه توصيات لرئيس الوزراء الصهيوني المقبل آنذاك بنيامين نتنياهو في ما يتعلق بسياسة الأمن القومي «الإسرائيلي» وهي تتضمن «استخدام القوة لتحقيق أهداف إضعاف واحتواء بل وحتى صدّ سورية».
كان على سورية أن تجري حسابات إقليمية استراتيجية لا تتخلى عن مواصلة السعي إلى توازن عسكري تكنولوجي مع «إسرائيل» ومواجهة حروب وأزمات أخرى اشتعلت في الوقت ذاته تقريباً. حيث استندت في مواجهة تلك التحديات الأقليمية إلى استراتيجية واضحة كرّسها وعدّلها الرئيس حافظ الأسد منذ 1975. بدأ الرئيس بشار الأسد استلهام دروس استراتيجية والده وفي أساس تلك الاستراتيجية كان بناء الجبهة المشرقية (جبهة لبنان وسورية والأردن والفلسطينيين تمتد من رأس الناقورة في جنوب لبنان إلى مدينة العقبة جنوب الأردن)، فعمّق علاقات سورية بلبنان والأردن والمقاومة الفلسطينية خلال السبعينات، وبات الدعم الذي تحصل عليه سورية من روسيا وإيران يوازي الدعم الأميركي لـ»إسرائيل»، معتمداً على ما قاله الرئيس الراحل حافظ الأسد في كلمته بمناسبة عيد الثورة في آذار 1992: «التحالفات الجديدة القادمة لن تكون كالتي كانت. التحالفات الجديدة ستبحث في مجالات حيوية.. إن العرب كمجموعة لم يفعلوا شيئاً لمواجهة المستقبل ولم يقدموا جديداً للتعامل مع العالم الجديد، وإلى أن يتكوّن وعي عربي أفضل يفهم أبعاد ما يحدث فإنّ سورية في سياستها وفي أفعالها تأخذ بالاعتبار هذه الأبعاد كما تراها واثقة أنها ستظل القلعة الوطنية القومية. فسورية لن تجامل ولن تساوم أحداً على المبادئ، خاصة عندما يتعلق الأمر بالأبعاد القومية هكذا نحن وهكذا سنبقى وهذا هو دور سورية القومي النقي ماضياً وحاضراً ومستقبلاً، مهما ضخمت مصاعبنا فالتسليم ليس خيارنا.. السلام الذي نقبله هو الذي يعيد الأرض ويعيد الحقوق وينشر الأمن في المنطقة وأقل من ذلك هو استسلام.. إذا كان أحد يظن أن المتغيرات الدولية ترضخ الشعوب فبئس هذا الأحد لأنه لم يستعد السيرة البشرية ولم يستوعب مدلولاتها وعبرها ولم يدرك أن النسيج النفسي والاجتماعي للشعوب يجعلها تنتزع من كل ظرف جديد خلاصة العناصر والإمكانات التي تجعلها قادرة على التكيف ومواجهة التحديات الجديدة».
بالتالي، فإنّ استراتيجية الرئيس بشار الأسد لم تكن جامدة، بل تعامل مع استراتيجيته كخياط ماهر يتعاطى مع رقعة قماش على طاولة يجري فيها تعديلاً وتفصيلاً لتتلاءم مع متطلبات المرحلة. فعكف على تثبيت استراتيجية سورية جديدة تأخذ بالاعتبار كافة المتغيرات. ومن جملة الدروس المستوحاة أنّ سورية لم تغيّر خطابها القومي، ورغم تواضع ثروات سورية الاقتصادية أصبحت دولة مركزية في المشرق العربي شديدة الاستقلال في قراراتها وخياراتها وهو استقلال أصبح نادراً بين الدول في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين وأشار إليه كبار الباحثين الأوروبيين.
اليوم تواجه سورية تحدياً اقتصادياً يعود تفاقمه إلى أسباب عديدة أبرزها القانون الأميركي (قيصر)، وعُقوباته التي تريد عرقلة عملية التطوير، لكنّ من صمد وتصدّى لمختلف أساليب الحرب ببشاعتها فإنه سيدير هذه الأزمة بضراوتها.
هو الأسد الذي قاد سورية نحو العز والنصر…