التذاكي التركي والكلفة الباهظة
قدمت القيادة التركية خلال السنوات الست التي أعقبت التموضع الروسي في سورية نموذجاً عن أسلوب التذاكي والمماطلة والخداع الذي تعتمده في التعامل مع المتغيرات، التي فرضت حضورها بإسقاط المشروع الأصلي الذي شكلت تركيا بقيادة رجب أردوغان ركيزته الرئيسية بهدف إسقاط سورية، ضمن إطار تخديم تركيا للمشروع الأميركي في المنطقة لقاء عائدات اعتماد تنظيم الإخوان المسلمين كوكيل للمصالح الأميركية في المنطقة.
عندما اصطدمت تركيا بالتموضع الروسي كان في حسابها جر الغرب لمعركة مع روسيا، وعندما خذلها الغرب لجأت إلى التذاكي للتملص من دفع فواتير دورها المحوري في خطة الحرب على سورية، وصارت تشتغل مياومة وشراء الوقت وتقديم التنازل تفادياً للمواجهة لحفظ ما تبقى، لكنها لم تنخرط إطلاقاً بخيار صناعة السلم والحل السياسي، بل تصرفت باعتبار كل عناوين آستانة مجرد إطار لشراء الوقت ريثما تأتي ظروف تتيح تحقيق مكاسب لمشروع أردوغان الذي تطلع دائماً لامتلاك أوراق تأثير وعبث في المعادلة السورية تحت عناوين مختلفة.
حاولت القيادة التركية تحويل مجالات التعاون خارج سورية مع روسيا وإيران إلى مصادر توسيع لهامش مناورتها في شراء الوقت، وحققت بعض النجاحات، لكنها كانت دائماً تكشف منهج التذاكي الذي ما كان يتأخر ليعبر عن ذاته ويكتشف الروس والإيرانيون، خصوصا ًعندما تلوح في الأفق بوادر عودة غربية للتصعيد، فيترسمل بها الأتراك للتكشير عن أنيابهم.
تحملت سورية الكثير بانتظار أن تبقي خطواتها محسوبة ومدروسة بصورة لا تفكك الحلف الذي صنع النصر، فتفهمت الاعتبارات التي تحكمت بمواقف حليفيها الروسي والإيراني، والروسي على وجه الخصوص، سواء أثناء الحركة التركية نحو ليبيا التي بدت مصلحة روسية بتعطيل أنبوب الغاز الإسرائيلي- المصري نحو أوروبا برعاية أميركية كمنافس لخط الأنابيب الروسي- التركي، أو خلال حرب أرمينيا وأذربيجان حيث شكل التدخل التركي عنصر توازن برر لموسكو الدخول كوسيط مقبول لوقف النار.
خلال الشهور الأخيرة ومع الانسحاب الأميركي من أفغانستان والاستعداد الروسي مع الحلفاء لبدء مرحلة جديدة لملء الفراغ الناجم عن التراجع الأميركي والدفع بالأميركي لمزيد من التراجع ظهرت تركيا صاحبة مشروع خاص، فقدمت استعدادها لتخديم حلف الناتو في أفغانستان وأذربيجان، بصورة موجهة مباشرة ضد روسيا، والبلدان يقعان على الحدود الروسية، بينما ذهبت تركيا في ليبيا لتحويل عائدات وجودها لفرض مشروع شراكة خاص يعطل فرص روسيا كشريك دولي في صناعة الحل السياسي.
تبلورت في موسكو معادلة حاسمة بوجه الدور التركي، تمهد لخطوات تعيد تذكير أردوغان بلحظات ما بعد إسقاط الطائرة الروسية التي جلبته إلى آستانة، وتبدو سورية مقبلة على تطورات انتظرتها طويلاً في منطقة إدلب بوحي هذه المتغيرات.
التذاكي وشراء الوقت يصلان إلى المسافة صفر من لحظة الحقيقة.