عالم ينهار عالم ينهض ومركز ثقل العالم ينتقل إلى الشرق
محمد صادق الحسيني
«العالم ليس سوى غابة… هذه مقولة كنا قد نسيناها
لكن الخنجر الذي طعنتنا به أميركا في الظهر
يعيد تذكيرنا بها اليوم مجدداً».
هذا الكلام لسفير فرنسا السابق في واشنطن (في إشارة إلى إلغاء صفقة الغواصات الأسترالية لفرنسا بضغط من الولايات المتحدة الأميركية).
لا يزال العالم يعيش تحت صدمة فسخ صفقة الغواصات التي تعمل بالوقود التقليدي بين أستراليا وفرنسا واستبدالها بأخرى مع أميركا تعمل بالوقود النووي.
وهو ما اعتبره القادة الفرنسيون خيانة أميركية للشراكة الأطلسية وتواطؤاً بريطانياً ذميماً وانقياداً أسترالياً بغيضاً، سيرمي بظلاله على كل العمل المشترك في حلف الناتو.
وهو ما أثار بالفعل تساؤلات عميقة لدى المتابعين والخبراء والمراقبين على حدّ سواء.
ويعتقد مطلعون أنّ العاصفة الهوجاء من النقد اللاذع التي انطلقت مع هذه الواقعة لدى الفرنسيين لها ما يبرّرها بسبب سوابق أميركية تعود لأيام حكم ترامب.
فقد سبق للأميركيين أن وجهوا انتقادات لاذعة للفرنسيين كما للألمان، متهمين إياهم بأنهم لم يقوموا بواجباتهم كما ينبغي تجاه حلف الأطلسي فيما يدفع الأميركيون من خزانتهم لحماية أوروبا والدفاع عنها، وهو خلاصة الكلام الذي أسمعه ترامب للأوروبيين في اجتماعه الشهير بقادتهم في الأشهر الأخيرة من عهده على هامش اجتماع عالي المستوى في فرنسا.
ومن يومها تحسّس قادة أوروبا رؤوسهم وبدأوا يتحدثون عن ضرورة تشكيل قوة دفاعية خاصة بهم.
واليوم مع القرار المفاجئ لأستراليا بإلغاء ما عُرف بصفقة القرن (ما قيمته 56 مليار دولار) مع فرنسا واستبدالها بأخرى أميركية مع إعلان مفاجئ لجو بايدن عن تحالف ثلاثي يضمّ بلاده وبريطانيا وأستراليا، تكون الرواية الفرنسية عن الخيانة الأميركية تجاه باريس والطعن في الظهر قد اكتملت.
لعلّ من المفيد هنا الإشارة إلى أنّ حلف شمال الأطلسي وهو الحلف القائم بين أميركا وأوروبا إنما تشكل بعد الحرب العالمية الثانية من أجل حماية أوروبا من الاتحاد السوفياتي سابقاً.
الأوروبيون يشعرون بقوة منذ زمن ليس بالقليل بأن واشنطن تعيش موسم الهجرة إلى الصين، وأنها لم تعد ترى في موسكو عدوها الأساس بقدر ما ترى ذلك في الصين، خصوصاً بعد أن انتقل الصراع برأيهم من الميدان والحروب العسكرية إلى الاقتصاد، وهو المجال الذي سبقتهم فيه الصين مسافات طويلة.
بالتالي فإنّ ما بات مطلوباً بالنسبة لواشنطن إنما هو تحالفات جديدة تقوم على ضرورة الانتقال من ضفتي الأطلسي إلى ضفتي الهادئ وبحر الصين.
في هذه الأثناء فإنّ تحوّلاً مهماً آخر أيضاً قد طرأ في موازين القوى العسكرية أيضاً في النطاق الأوروبي.
حيث يجمع المتخصصون والعالمون بتقنيات القوة العسكرية الروسية الراهنة، وهو ما يعرفه جنرالات الناتو وكذلك جنرالات البنتاغون جيداً بأنّ قدرات العسكر الروسي المتطورة جداً باتت قادرة على سحق القوة العسكرية الغربية والسيطرة على الميدان فيها من لينينغراد إلى النورماندي (أقصى غرب فرنسا) خلال 24 ساعة.
وهذا التحول المهم في الموازين هو الذي دفع ألمانيا مبكراً للتوجه شرقاً باتجاه موسكو والتفاهم معها لإنجاز مشروع السيل الشمالي 2 للغاز، لتأمين ألمانيا من الطاقة، والتزام الحذر الشديد تجاه أيّ مخطط مقترح من واشنطن قبل أن يتطابق مع المصلحة القومية الألمانية العليا.
واليوم يأتي الدور على فرنسا للتفكير ملياً في ما إذا كان المطلوب منها التفكير جدياً بالتوجه شرقاً في إطار حماية أمنها القومي واستجرار الطاقة مثلاً من الروس أيضاً عبر ألمانيا.
تجدر الإشارة بالطبع هنا إلى أنّ باريس هي الأخرى قامت مع ذلك بترتيب أمورها مبكراً مع الجزائر (المحسوبة حليفاً قوياً لروسيا) لاستجرار خط الغاز من نيجيريا عبر ربط خطوطه بخطوط نقل الغاز الجزائري وهو المشروع الذي تعمل عليه الجزائر منذ مدة والذي يكلف نحو 13 مليار دولار.
في هذه الأثناء جاءت واقعة فرار الأميركيين من أفغانستان وهروبهم المذلّ والمستعجل منها، وكذلك واقعة استكمال تشكل تجمع الشرق الجديد الرباعي في إطار منظمة شانغهاي للتعاون الدولي في العاصمة الطاجيكية قبل أيام (روسيا والصين وإيران وشبه القارة الهندية) بعد الإعلان عن انضمام إيران إليه كعضو كامل الصلاحية، بمثابة القشة التي قد تقصم ظهر البعير الأوروبي الآيل إلى الترهّل والتراجع في الوزن الدولي.
وهو يعني في ما قد يعني تلخيصاً وفي المجمل أنّ العالم بعد التضحية الأميركية بأفغانستان وإلغاء صفقة الغواصات الفرنسية مع أستراليا لصالح واشنطن وتغيير أميركا لعقيدتها العسكرية، يتحوّل عملياً في الموازين العامة نحو آسيا.
وبهذا تكون أميركا قد جمّدت عملياً دور أوروبا في استراتيجيتها العامة مستبدلة الدور الأوروبي الناتوي ضدّ روسيا لصالح ناتو جديد في مواجهة الصين.
في هذه الأثناء فإنّ ما سيتعزز في المقابل هو تحالف شانغهاي الآسيوي الجديد وإن لم يكتمل بعد كحلف عسكري رسمياً.
إنها موازين القوى الدولية الجديدة التي تشي بأنّ مركز ثقل العالم ينتقل من الغرب إلى الشرق.
بعدنا طيبين قولوا الله…