لا ثقة ما لم تستعاد الأموال المنهوبة
بشارة مرهج*
أهمية البيان الوزاري أنه يفصح عن توجهات الحكومة في شتى المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية. وعادة ما يُكتب البيان على أساس الوعد بالتنفيذ وإعطاء الرأي العام نفحة أمل بعد الخيبات التي تسبّبت بها الحكومة الراحلة.
والبيان يتحوّل إلى التزام إذا مارس مجلس النواب صلاحياته وراقب عمل الحكومة والوزراء وتأكد عبر المرحلة المقبلة من حسن سير العمل في تنفيذ مندرجات البيان الوزاري وترجمة الوعود التي نثرت هنا وهناك في ظلّ أزمة طاحنة لم يشهد لبنان لها مثيلاً.
وأوّل ملاحظة تسجل على البيان عدم إقراره بالحجم الأسطوري للأزمة التي تضع مصير لبنان على المحك وتفرض اتخاذ إجراءات جذرية للإنقاذ والإصلاح والنهوض. فالمسألة المطروحة بعمقها وأبعادها تحتاج إلى ذهنية تغييرية أكثر منها تصحيحية. ولعلّ ما جاء في البند المتعلق بالشأن المصرفي يلخص، لا بل يكشف، نظرة الحكومة المستقبلية تجاه كلّ الأمور. ولما كانت هذه النظرة تقليدية، وتحتفي بما جاء في بيانات الحكومات السابقة وتتبناها بهذه الحجة أو تلك فلا يمكن الوثوق بها أو الاستناد إليها في عملية الإنقاذ التي تحتاج إلى خطة واضحة صارمة، بخاصة في ما يتعلق بالحلف الذي يجمع ما بين القطاع المصرفي وحاكمية البنك المركزي. هذا الحلف الذي سجل فشلاً ذريعاً في إدارة المال الخاص كما العام، وأثقل سجله بالمخالفات الفاضحة لقانون النقد والتسليف، وتسبّب مع امتداداته في الطبقة الحاكمة بكارثة اقتصادية صدمت العالم كله، وأدت إلى تلويث سمعة لبنان وضرب مقوّمات الدولة، وإفراغ صناديقها، مثلما أدت إلى إفقار اللبنانيين وتشريدهم في رياح الأرض الأربع من دون أن يعترف هذا الحلف بحقيقة ما اقترفت يداه، ومن دون أن يسلم بضرورة التغيير الجذري ودفع ما يترتب عليه بموازاة فشله في أداء مسؤولياته.
وإذا كانت الحكومة الجديدة ستتجاهل هي الأخرى مسؤولية الأطراف عن الكارثة وتعمل على أساس عفا الله عما مضى وتصرّ على النهج البائد في إدارة الأمور فإنّ فشلها محتوم على رغم الفتات الذي سيتوافر لها نتيجة إدراك المجتمع الدولي والدول العربية أهمية إعطاء لبنان بضع جرعات من المساعدات تقيه شرّ الانفجار وتحرمه نعمة الانطلاق في آن.
وهنا لا بدّ من القول إنه مهما بلغت المساعدات المنهمرة على لبنان فهي لن تفي حاجته ولن تغني عن قرار لبناني ذاتي بالإصلاح الجذري الذي لا معنى له إذا لم يبدأ باستعادة الأموال المنهوبة والمهرّبة التي انتقلت جهاراً نهاراً من أدراج البنوك إلى الحسابات الخارجية لمن طعن اللبنانيين في الظهر وجندلهم على أبواب المصارف والمستشفيات والجامعات، ولا يزال حتى الآن يتنصّل من المسؤولية ويتنطح لقيادة الدولة مستفيداً من انتهازية الغرب ومصارفه وشركاته الاحتكارية كما هزال القوى والجماعات والمؤسسات المحلية التي تتستر على الجريمة وتسعى إلى زيادة نصيبها من التركة المتهالكة.
وفي هذا السياق لا يُرجى خيراً من أيّ عمل حكومي، ولا معنى لأي ثقة يمحضها مجلس النواب ما لم يبدأ العمل فوراً بالتدقيق الجنائي لحسابات البنك المركزي ومساءلة شركتي التدقيق المالي الأجنبيتين المولجتين إعداد التقارير السنوية لهذه الحسابات منذ عقود.
إنّ الرأي العام ومعه كلّ حريص على المال العام والخاص من حقه أن يعرف ما جرى وعلى من تقع مسؤولية هدر أموال الدولة واستباحة أموال الناس، فهذه هي نقطة البداية للإصلاح الحقيقي، بل للعمل السوي البسيط الذي يحترم أصحابه أنفسهم والحقيقة والناس. أما الباقي فمجرد ركام في بلد عجز مسؤولوه حتى الآن عن إزالة الركام من على جبين العاصمة ومرفئها وشوارعها.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ