أوروبا العظمى يقظة مارد أم مواقف عابرة؟
} د. محمد سعد
يكثر الأوروبيون من إطلاق المواقف التي تعبّر عن الحاجة إلى الإستقلالية الأوروبية بعيداً عن الولايات المتحدة الأميركية أو مظلة حمايتها المزعومة التي تحوّلت هيمنة دائمة، وفاعل تقسيم للأوروبيين كلما دبّ دبيب واشنطن المدمّر في أربع جهات العالم تدخلاً وإحتلالاً، لإبقائهم أسرى الرعاية والحماية الأميركية، وإستدراجهم لتأييد سياساتها وإستراتيجياتها من غير تحفظ وإعتراض.
تعتبر باريس رائدة التعبير عن الاعتراض الأوروبي في وجه السياسات الأميركية، والدعوة إلى الإستقلالية الأوروبية، وإعلاء مصلحة الأوروبيين والفكاك من الإرتهان لواشنطن، لكن المحاولات الفرنسية سرعان ما كانت تصطدم بمواقف الدول الأوروبية المنصاعة للهيمنة الأميركية، والتي كانت تقدّم ولاءها الأطلسي على انتمائها الأوروبي، وبالتالي فإنّ تمرّد الإليزيه سرعان ما كان يخبو إلى حين.
وجاءت أحداث 11 أيلول/ سبتمبر 2001 لتوسع رقعة التمرد الأوروبي في وجه الولايات المتحدة ولتزيد الطين بلة بين الجانبين، إذ سرعان ما تبخر التضامن الأوروبي مع الولايات المتحدة، التي استهدفت بتلك الأحداث الدامية، حيث برزت الرؤية الأميركية للحلفاء الأوروبيين بإعتبارهم مصدر تهديد، وعائقاً كبيراً أمام سياساتها المتطرفة، التي انبرى الأوروبيون لتوجيه سهام نقدهم إلى الخطاب السياسي الأميركي، خاصة أنّ واشنطن مارست علناً استراتيجيتها القاضية بشق الصف الأوروبي، للحد من دوره في الساحة الدولية، خصوصاً أن الولايات المتحدة غلّبت أمنها القومي على الأمن الجماعي الدولي الذي تتمسك به دول محورية في أوروبا، هذا الأمن القومي الذي يبدو واضحاً أنّه يقوم على حدود متحركة، هذه الحدود الموجودة في كل مكان يمكن الوصول إليه على مجمل الكرة الأرضية.
بُعيْد تسلم ترامب مقاليد الرئاسة الأميركية، واصل فالق منتصف المحيط الأطلسي توسيع المسافة الفاصلة بين كل من الإتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأميركية من النواحي السياسية والإقتصادية والعسكرية، وظهر بوضوح أن عرى التحالف تهتز كلما أطلق ترامب تصريحاته الشعبوية التي كانت تعمل على خلخلة بنيان الإتحاد الأوروبي وأسسه. فترامب لا ينظر للإتحاد الأوروبي كشريك حيوي، أو كنموذج للنظام الدولي، وهو مشبع بشعار أميركا أولاً ومبدأ الصفقة. فتراه يعارض سياسات أوروبا، ويصنفها في خانة المنافس أحياناً، والعدو أحياناً أخرى. نظرة ترامب هذه كان يعبّر عنها الرؤساء الأميركيون بطريقة ناعمة، وبالتالي فنظرة ترامب لم تكن إنحرافاً أو خروجاً عن ما دأبت عليه الولايات المتحدة في التعامل والنظر إلى علاقتها مع الأوروبيين، باعتبارها علاقة تبعية.
في تلك الفترة أدرك عدد من القادة الأوروبيين وفي طليعتهم ماكرون وميركل بأن الحاجة إلى الإستقلالية الأوروبية وتحرر أوروبا من الهمينة الأميركية مسألة باتت أكثر من وجودية لبقاء الإتحاد وإستمراره وتطوره، فكان أن أطلق الرئيس الفرنسي ماكرون دعوته لإنشاء الجيش الأوروبي المستقل عن حلف الأطلسي، الذي تسيّره وتديره واشنطن كالعادة منفردة، بل ذهب إيمانويل ماكرون أبعد من ذلك عندما قال إن «الولايات المتحدة تدير ظهرها لنا»، داعياً أوروبا إلى بدء العمل كقوة إستراتيجية عالمية، بعدما وصف الحلف بـ»الميت دماغياً»، دعوة الرئيس ماكرون تردد صداها في برلين فأعلنت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل موقفاً صارماً: «أنّه بعد إنتخاب ترامب لم تعد أوروبا قادرة على الإعتماد على الولايات المتحدة، ويجب عليها أخذ مصيرها بيدها».
أجواء التفاؤل التي سادت عموم القارة الأوروبية بانتخاب بايدن ورحيل ترامب لم تدم طويلاً، إذ أنّه وبمجرد دخول بايدن إلى البيت الأبيض استأنف احتضان مبدأ الهيمنة بإسم التعاون الدولي، وهذا ما عبّر عنه المنسق الأعلى للسياسة الخارجية في الإتحاد الأوروبي جوزيب بوريل عندما قال: إنّ إدارة بايدن ستعتمد لهجةً ونهجاً أقلّ مواجهة من ترامب، فالمصالح الجيوسياسية الأساسية لأميركا لن تتغيّر باختلاف رئيسها، وبالتالي إن الهدف الشامل للإتحاد الأوروبي يجب أن يكون تعزيز دوره وتأثيره في العالم، بحيث يكون الشريك المفضل لكل دولة وقوة عالمية أخرى، ومفهوم الإستقلالية الإستراتيجية ضروري لهذا الطموح، الرضا الإستراتيجي ليس خياراً متاحاً».
مواقف الاعتراض الأوروبي على الساسيات الأميركية وضرورة التمايز والإستقلالية عنها تكبر وتتوسع، وباتت حديثاً يومياً في أروقة وغرف مقر الإتحاد الاوروبي في بروكسل وفي عواصم القرار فيه، إذ كشف رئيس المجلس الأوروبي، تشارلز ميشيل في مقابلة أجراها معه مركز الدراسات الجيوسياسية للأبحاث، ومقره باريس: «إلى أن الإتحاد الأوروبي على دراية تامة بسياسة إدارة الرئيس بايدن، الهادفة إلى تغليب المصالح الأميركية على مصالح الآخرين، فانسحاب الولايات المتحدة من أفغانستان، عزز عند الدول الأوروبية فكرة الاستقلال الاستراتيجي لأوروبا، ويضيف ميشيل أن الدول الأوروبية أبدت تضامناً مع الولايات المتحدة عقب هجمات 11 أيلول عام 2001، حيث قمنا بتفعيل المادة الخامسة من ميثاق حلف شمال الأطلسي (الناتو)، للمرة الأولى في تاريخ الحلف من أجل واشنطن، التي تنص على أن الهجوم على إحدى دول الحلف سوف يعامل على أساس أنه هجوم على بقية الأعضاء جميعاً، وأن الحلفاء ملزمون بالردّ عليه، وأن استخدام القوة العسكرية يعد أحد الخيارات في هذه الحالة. وانتقد ميشيل الإدارات الأميركية الحالية والسابقة، قائلاً: «ما أدهشني بصفتي أوروبياً هو أنه عندما قررت الولايات المتحدة التفاوض مع طالبان في عهد ترامب وتأكيد الانسحاب من أفغانستان لاحقاً، لم يتم إجراء الكثير من المشاورات مع الشركاء الأوروبيين».
وتابع: «أزمة أفغانستان أظهرت أنه حان الوقت لنا نحن كأوروبيين للنظر في المرآة، والسؤال كيف يمكن أن يكون لنا تأثير أكبر مستقبلاً في البيئة الجيوسياسية؟»
وأضاف متسائلاً: «كيف يمكننا العمل على التأثير في مجرى الأحداث بطريقة تتماشى مع مصالحنا؟»
تصريحات ميشيل لن تكون آخر التصريحات النارية الأوروبية التي تظهر التملل من التأثير والهيمنة الأميركية على القارة الأوروبية ودولها، فالأوروبيون يتحسّسون واقعاً وفعلاً أن واشنطن باتت تعقّد الهوية الأوروبية، وتؤثر على قراراتهم وتربك مسيرتهم التكاملية، وتضعف سياستهم الخارجية، حتى أنهم باتوا يتسألون إلى متى سيبقى ما تريده الولايات المتحدة نقطة مرجعية باستمرار أمام الحكومات الأوروبية؟ لعلّ الجواب على هذا السؤال تتردّد أصداؤه في عموم أوروبا وتحديداً في برلين وباريس وبروكسل فحجم الاعتراض الأوروبي على سياسات الولايات المتحدة، وتأثيراتها عليهم بات كبيراً جداً يصعب إخفائه، ولعل الوقت الذي يستيقظ فيه المسؤولون الأوروبيون كل صباح ليسألوا عن ما تفكر به أوروبا لا ما تفكر فيه الولايات المتحدة الأميركية قد حان.
العبر في الأفعال لا في الأقوال، أصلح الله أوروبا أشدّ العرائس جحوداً، آمين.