ما وراء الغواصات ـ أزمة عابرة أم أبعاد تتجاوز ما هو استراتيجي؟
} نزار عثمان
قد تشكل أزمة الغواصات الأخيرة بعداً ثقافياً يتجاوز بمفاعيله الأبعاد الاستراتيجية ليتخذ مكاناً له في إطار إعادة قولبة مفهوم الغرب بالعموم، فمن المعلوم أنّ تحالف أوكوس قد تبدّى بمظهر انكلوساكسوني، معتمداً على بعد أولي محدّد لمفهوم الأمة لدى من يعتبر اللغة من محددات أيديولوجيا الأمة، وهو الأمر الذي يشي بشروخ أولية بين غربين أحدهما أوروبي ركيزته فرنسا وألمانيا بمرتكزاته ومشاربه الفكرية المتعددة، وثانيهما أميركي يعتمد على مفهوم البراغماتية وركيزته على ما أسلفنا الثقافة ـ اللغة، في مقابل الصين التي قد تمثل وفقاً للبروباغندا الغربية تبلوراً لفكر وممارسة غريبيْن عن القيم والممارسات التي اعتادها الفكر الغربي، وروّجت له العولمة ومن بعدها القوة الناعمة.
ما ذكرناه قد يمثل استهلالاّ أولياً لنطرح الأسئلة التالية: ما هو هدف الولايات المتحدة من صفقة الغواصات مع استراليا؟ هل يقتصر الحال على رغبة بايدن باكتساب المال وهو الذي ما انفكّ يطالب المؤسسات الرسمية الأميركية بمزيد من الأموال لمكافحة آثار كورونا والأزمة الاقتصادية التي تنوء بلاده تحت وطأتها؟ ام أن وراء الأكمه ما وراءها؟
في الواقع قد تبدّت فرنسا ومن ورائها الاتحاد الأوروبي في سعي دؤوب لشقّ طريق مستقلّ عن الولايات المتحدة لا سيما في عهد ترامب، فكنا نرى إدانات أوروبية لعمليات هدم منازل الفلسطينيين في القدس، كما مواقف معارضة لتوجهات الولايات المتحدة إزاء ايران في مجلس الأمن، وصولاً إلى الدور المتصاعد لفرنسا إنْ في لبنان أو العراق أو غيرهما، وهذه الأمور وغيرها أعادها بعضهم إلى معارضة مرحلية وقتية لحقبة ترامب، ومن المفترض بزعمهم أن تنتهي بانتهاء ولايته، لكن الواقع يثبت أنّ هذا الأمر قد يكون أبعد، فإنْ كان ترامب ينظر الى الاتحاد الأوروبي نظرة فوقية، يبدو بايدن من خلال أزمة الغواصات وكأنّ الأمر يتجاوز أشخاص الرؤساء في البيت الأبيض ليصبّ في خانة الاستراتيجية المتبعة التي تلعب بها الدولة العميقة أبرز الأدوار.
وهنا يبرز السؤال: لم القلق الأميركي من التوسع الفرنسي في الشرق الأوسط وغرب آسيا؟ قد لا يمكن بناء رؤية عامة للإجابة على هذا التساؤل، إلا من خلال التحليل لبعض المعطيات المتوفرة، ذلك إنه من الواضح أنّ الولايات المتحدة تجد مصيرها الذي لا مناص عنه هو الانسحاب من هذه المنطقة، فهل ترضى واشنطن أن تستبدل دورها بدور فرنسي؟
يبدو من خلال الدعم الكبير لـ «إسرائيل» ـ وما قضية الإحجام عن تمويل القبة الحديدية في الكيان الصهيوني إلا حدث طارئ سيتمّ تجاوزه ـ وضمّها إلى منطقة عمليات القيادة المركزية للقوات المُسلحة الأميركية (سينتكوم) في الشرق الأوسط، وصولاً إلى دعمها في إنجاز عمليات التطبيع مع عدد من الأنظمة العربية ـ أما الحديث عن كون عمليات التطبيع هذه كانت في عهد ترامب وبالتالي فوزرها على إدارته، يواجهها موقف بايدن وإدارته المطاطي الى حدّ غير متناه من موضوع حلّ الدولتين بعد الإعلان عن انتهاء صفقة القرن ـ وغيرها، وما هي إلا دلائل تظهر الدور المنوط بالكيان الصهيوني وفقاً للرؤية الاستراتيجية الأميركية، فقد يبدو من المنتظر منه أن يقوم بإدارة المصالح الأميركية في المنطقة، عبر مدّ أذرعه الأخطبوطية شرقاً وغرباً في سعي للظهور بمظهر القوة الكبرى، على الرغم من فقده لمحدّداتها، إنْ على صعيد عدد السكان فيه، أو حدوده الجغرافية، أو مقدراته وثرواته الطبيعية، وهو ما قد تحاول الولايات المتحدة الاستعاضة عنه بمزيد من الدعم، فضلاً عن السعي في المساهمة لمدّ تأثيراته الاقتصادية والسياسية على مدّ النظر شرقاً وغرباً، في مواجهة قوى عظمى جديدة صاعدة في آسيا…
من هنا تبدو فرنسا في دورها الذي تتلبّس فيه في الشرق الأوسط، أشبه بالطفل الذي يلعب في حديقة جاره الشرير، وعليه قد تكون الستارة أسدلت على تغيّرات في التحالفات والاستراتيجيات العامة البعيدة المدى التي قد تكشف عنها أزمة الغواصات هذه، والتي يمكن لها ان تحجّم ـ انْ لم نقل مصطلحاً أكبر ـ دور حلف شمال الأطلسي، لا سيما انْ أضفنا الى هذه الأزمة ما جرّبه في الانسحاب الأميركي من أفغانستان ومفاعيله ونتائجه…