الدكتور وفيق إبراهيم كما عرفته عن قرب
} محمد حمية
لن تتسع هذه السطور القليلة لقول كلّ ما يجول في خاطري من ذكريات جميلة وشعور وجداني خلال عشر سنوات من علاقة الأبوة والأخوة والصداقة التي جمعتني بالمرحوم الدكتور وفيق إبراهيم. ولن تكفي تلك المساحة المحدودة لقول كلّ ما أعرفه عن مناضل أفنى حياته في تحصيل العلم والثقافة ونقلها إلى الأجيال الجامعية، والدفاع عن قضايا المقاومة والوطن والأمة في إطلالاته المتلاحقة على المنابر الإعلامية.
بدأت علاقتي مع د. وفيق بعد وقت قصير على انطلاقة قناة وموقع «توب نيوز» إبان الحرب على سورية في العام 2012، فكان اللقاء الأول في أحد مقاهي بيروت ثم اللقاء الثاني في حوار أجريته معه خلال برنامج سياسي على القناة، ومنها توطدت العلاقة بعدما أُعجِب بجهودي ومتابعتي للوقائع والأحداث السياسية، واتفقنا على التواصل الدائم والتنسيق على الصعيد الإعلامي، وبعدما بدأت عملي في جريدة «البناء» بأشهر قليلة بدأ د. وفيق كتابة رئيسية الصفحة 2 بشكل يومي، ففرضت ضرورة التنسيق بهذا الشأن التواصل اليومي بيننا حتى في عطلة نهاية الأسبوع، فكنت أنتظر اتصاله بكلّ شغف ومحبة، فتعزّزت العلاقة أكثر وانتقلت سريعاً إلى علاقة شخصية تعمّقت يوماً بعد يوم لتتطوّر إلى علاقة عائلية ولقاءات دائمة في منزله وفي مقاهي بيروت وفي مكتب جريدة «البناء» في الحمرا، واستمرت العلاقة في السراء والضراء متجاوزة كافة المحطات والمراحل السياسية والأحداث والظروف الأليمة التي ألمّت بلبنان وسورية والمنطقة.
لن أنسى حديثك ورؤيتك في تلك اللقاءات للواقع السياسي في لبنان، ولا طريقة شرحك للنظام السياسي اللبناني بإسهاب، والتي تعبّر عن فهم عميق لهذا الواقع واستشراف واستشراق المستقبل، وغالباً ما كنت تصيب وتستبق حصول الأحداث وتتصل بي لتخبرني بها ويطول النقاش.
لا يزال كلامك يحفر مساحة كبيرة في ذاكرتي عن أحوال لبنان وسورية والدول العربية وإيران وأثر المصالح الدولية والإقليمية على تطور الأحداث في منطقتنا.
ويستوطن في وجداني سؤالك الدائم عن أحوالي على الصعيدين المهني الصحافي والاجتماعي وكنت من أكثر الداعمين لي على الصعيد المعنوي، ولم تقصّر في نقل خبراتك إليّ لا بفكرة أو اقتراح أو خطة لتطوير القدرات والمعلومات وبلوغ الأهداف بشكل أسرع، كنت تكرّر على مسامعي دائماً وفي غيابي «محمد إبني الرابع»، جمعتنا القضايا المشتركة وساحات المواجهة الإعلامية والاحترام والثقة والمودة والمحبة والأمانة وكتم الأسرار حتى كنت تبوح لي عن الكثير من الأسرار والخفايا.
لم تقصّر في نصرة قضية المقاومة والقضايا الوطنية والعربية والقومية في مختلف المواقع والمنابر والفضائيات الإعلامية واللقاءات والندوات الثقافية والسياسية بكل جرأة وحرية… صاحب الموقف الرصين والموزون والحكيم والثابت والقلم البارع في تحليل الأحداث وربطها انطلاقاً من قراءة التاريخ والجغرافيا والعلاقات الدولية.
قارعت خصوم وأعداء المقاومة ولبنان والأمة من على الشاشات وبقلمك الرشيق وكلمتك الحرة وبكلّ حرفية وموضوعية ومهنية إنطلاقاً من قناعة راسخة بفكرك وخياراتك السياسية… نبذت الطائفية ودعوت إلى الوحدة القومية والعربية والعلاقات المميّزة مع سورية.
لم تتوسّل منصباً ولم تتسوّل مالاً ولم تكن تابعاً أو مبايعاً لأحد، رغم علاقاتك الجيدة مع مختلف القوى السياسية لا سيما حركة أمل وحزب الله والحزب السوري القومي الاجتماعي، بل اتبعت قناعاتك الفكرية وخياراتك السياسية التي آمنت بها حتى موعد الرحيل.
لن أنسى اللقاء الأخير بيننا وكأنه لقاء الوداع في مستشفى الجامعة الأميركية قبل أيام قليلة على رحيلك، وآخر اتصال بيننا قبل أسبوع على الوفاة الأحد الماضي، حيث كان صوتك خافتاً إيذاناً بقرب الأجل رغم قولك لي في ذالك اليوم بأنك ستعود إلى الكتابة خلال أيام لكن الموت كان أسرع، وراودني إحساس في تلك اللحظة بأنها المرة الأخيرة التي أسمع فيها صوتك الجهور.
لقد آلمنا الفراق وفٌجِعنا بالمصاب الجلل، رحيلك ترك فراغاً كبيراً في عائلتك الصغيرة والكبيرة وقريتك ومنطقتك، فكان حضورك محبّباً ومكانتك مقدّرة في كلّ مكان وموقع، وكنت الدعم والسند لأسرتك في كلّ المحطات، كنت المربي والمعلم وكيف لا وأنت من نهل من نبع العلم والثقافة لغة وفكراً وأدباً وتاريخاً وسياسة حتى تبوّأت موقعك الريادي بين المفكرين والمحللين السياسيين وفي الحقلين الأكاديمي والإعلامي.
دكتور وفيق صاحب البسمة الرقيقة والكلمة الطيبة الغاضب بسرعة والذي يهدأ ويستكين بلمح البرق، المحاور المحترف والعنيد والمقارع بشرف أبكيتنا جميعاً… ستفتقدك عائلتك وأقاربك وأهل بلدتك ومحيطك وطلابك وزملاؤك في الوسطين الأكاديمي والإعلامي الذي أحبك وأحببته، ورفاق دربك في ميادين النضال والجهاد بالكلمة والقلم والعلم.
رحل الدكتور وفيق بعد صراع مرير مع مرض عضال لتبقى أعماله ومواقفه حية وشهيدة وقلمه النابض بالمقاومة والحيوية وكلامه الدافق حباً ووطنية…