إنجاز كسر الحصار تحقّق… ولا ضغوط قادرة بعد اليوم على منع لبنان من حلّ أزماته وتنمية اقتصاده ومجتمعه
} أحمد بهجة*
تزامَنَ تشكيل الحكومة الجديدة في لبنان مع حدثين هامّين جداً سيكون لهما أبلغ الأثر على حياة اللبنانيين في الآتي من الأيام، الأول هو رفع الدعم عن المحروقات (كلياً عن المازوت وشبه كلي عن البنزين)، والثاني هو بدء توزيع المازوت الإيراني الذي استورده حزب الله إلى لبنان عن طريق سورية.
الحدث الأول هو تعبير واضح عن عمق المشكلة التي يعانيها لبنان نتيجة الحصار المفروض عليه والذي أدّى إلى فقدان العملات الصعبة وتحديداً الدولار الأميركي، وبالتالي فقدان القدرة على الاستمرار في تمويل الاستيراد من الخارج، الأمر الذي زاد من حدة الأزمة، ما جعل الطوابير أمام محطات البنزين تزداد طولاً وانتظاراً، وأدّى إلى شحّ كبير في مادة المازوت للمستشفيات الحكومية والخاصة ومعامل الأدوية والأفران ومضخات المياه في الكثير من المدن والقرى ومولدات الكهرباء الخاصة التي تغطي نوعاً ما غياب كهرباء الدولة.
أما الحدث الثاني فقد أعطى المؤشر الواضح على إمكانية كسر الحصار من دون أيّ مفاعيل سلبية، بل بالعكس تماماً حيث شكل وصول الباخرة الأولى من المازوت الإيراني، وقبل أن تبدأ بإفراغ حمولتها في مرفأ بانياس، مفتاحاً لكي تبلغ السفيرة الأميركية رئيس الجمهورية أن لا مانع لدى إدارتها من أن يستجرّ لبنان الغاز من مصر والكهرباء من الأردن عبر سورية من أجل توفير المزيد من ساعات التغذية بالتيار الكهربائي. علماً أنّ هذا الأمر متفق عليه منذ أربع سنوات تقريباً لكن الحصار الأميركي على لبنان وسورية كان يحول دون تنفيذه حتى قبل صدور «قانون قيصر» السيّئ الذكر.
وها هي باخرة المازوت الثانية قد وصلت إلى بانياس، وباخرة البنزين الأولى تمخر عباب البحر وتصل بعد أيام إلى بانياس أيضاً، على أن تليها باخرة مازوت ثالثة تصل هذا الشهر أيضاً لتغطي جزءاً من حاجات التدفئة المنزلية في الشتاء الآتي قريباً.
إذن هو مسار انطلق ولن يتوقف إلى أن يحقق الهدف المنشود حتى لو تطلّب الأمر استيراد 400 باخرة وليس 4 فقط، والهدف هو منع الحصار الأميركي ومَن معه من حلفاء وأدوات في الداخل والخارج من كسر إرادة اللبنانيين ودفعهم إلى الاستسلام أمام العدو الصهيوني، وهو أمر لم يحصل في الحرب بل حصل عكسه حيث ألحق اللبنانيون الهزيمة بالعدو أكثر من مرة، وبالتأكيد لن يحصل بالحصار الذي كُسِر وانتهى أمره.
ما نريد الوصول إليه هو العبرة التي لا بدّ أن تستفيد منها الحكومة الجديدة، التي يعلن رئيسها وعدد من أعضائها أن لا مجال لأيّ عمل إنقاذي إلا بالاتفاق مع صندوق النقد الدولي، والحصول على ختمه الذي يعيد للبنان ثقة عربية ودولية مفقودة.
حسناً… لن ندعو الحكومة إلى عدم التفاوض مع صندوق النقد بل على العكس، تفاوضوا كما تشاؤون لكن انتبهوا جيداً للتفاصيل، لأنّ الصندوق ليس جمعية خيرية بل هو مؤسسة دولية معروفة الميول والمنطلقات والاتجاهات، وله تاريخ مع دول عديدة في المنطقة وفي العالم، من حيث الشروط القاسية جداً التي يفرضها على الدول التي تريد الاستفادة من برامجه.
نحن في لبنان ربما من مصلحتنا أن نطبّق بعض الشروط القاسية على أنفسنا، حتى قبل أن يطلبها الصندوق منا، وأوّل هذه الشروط منع توظيف الدولة ومؤسساتها في خدمة هذا أو ذاك من الأفرقاء السياسيين، لا سيما أننا على أبواب انتخابات ثلاثية الأبعاد… بلدية ونيابية ورئاسية. لكن طبعاً هناك شروط أخرى قد يُطلب من لبنان تنفيذها وهي ربما شروط تطال السيادة الوطنية وما شابه ذلك…
هنا يجب التنبّه جيداً، ولذلك يجدر بنا إبقاء الأبواب مفتوحة أمام حلول اقتصادية ومالية يمكننا اعتمادها من دون الاتكال على صندوق النقد، الذي لن يستطيع أن يحلّ لنا كلّ مشاكلنا، لأننا في أحسن الأحوال وحتى لو التزمنا بكلّ شروط الصندوق فلن نحصل على أكثر من خمسة مليارات دولار على ثلاث سنوات، وجلها قروض علينا تسديدها في آجال محدّدة.
والأكيد أنّ حاجاتنا هي أكبر من ذلك بكثير، خاصة أننا نحتاج إلى كلّ شيء تقريباً، وها هي العروض الروسية والصينية والإيرانية مطروحة أمامنا، وما علينا سوى اتخاذ القرار بالتعامل الجدي مع هذه العروض بعيداً عن أيّ ضغط قد تمارسه هذه الدولة أو تلك من أجل عدم سلوك طريق الشرق، علماً أنّ هذا الطريق يوفر علينا الكثير من المتاعب والمشقات بدءاً من الانفتاح على محيطنا الطبيعي في سورية والعراق والأردن وما يعنيه ذلك لقطاعات الزراعة والصناعة والسياحة والخدمات وغيرها.
ومن الضروري أولاً أن يكون التركيز على موضوع الكهرباء، لأنّ وضعها الحالي في الحضيض، وبالتأكيد يعرف وزير الطاقة الدكتور وليد فياض الكثير الكثير عن هذا الملف، وهو عازم على فعل ما يستطيع لكي يجد الحلول المناسبة لهذا الأمر، وحين سئل عن العرض الروسي القديم الجديد لبناء مصافٍ لتكرير النفط على الأراضي اللبنانية أجاب أنه لم يتسلّم بعد أيّ شيء رسمي في هذا المجال، وطلب من المعنيين أن يرسلوا إليه العرض، وهذا ما سوف يحصل خلال أيام كما ذكر أكثر من مصدر، علماً أنّ المصافي المطروحة ستكون قادرة على الإنتاج خلال ستة أشهر، بواقع عشرين ألف برميل يومياً وصولاً إلى 150 ألف برميل يومياً بعد 18 شهراً، ومن اليوم الأول للاتفاق يتعهّد الجانب الروسي بتأمين كلّ المشتقات النفطية التي يحتاجها لبنان إلى حين البدء بالتكرير، مع تسييل ثمنه ضمن الاتفاق، أيّ بلا حاجة لتأمين الدولار لشرائه اليوم، مع قبول الشركات الروسية بالكفالة السيادية للحكومة اللبنانية دون الحاجة إلى صندوق النقد الدولي.
وقد يكون هناك طرح صيني مماثل قريباً أمام وزير الأشغال العامة والنقل الدكتور علي حمية لحلّ مشكلة النقل داخل المدن وبين المناطق، والذي أصبح مكلفاً جداً، خاصة أنّ الوزير استهلّ عمله بعد يوم أو يومين على تسلّمه الوزارة باستقبال سفيرة فرنسا في لبنان طالباً إليها نقل رسالة عاجلة إلى حكومتها تضمّنت طلباً بأن تقدّم فرنسا للبنان هبة باصات، على أن تكون كافية لتوزيعها على كلّ المناطق وليس بيروت فقط.
لم يأت بعد الجواب الفرنسي! لكن الرئيس إيمانويل ماكرون أبلغ الرئيس نجيب ميقاتي خلال لقائهما في باريس قبل أيام بأنّ فرنسا لا تستطيع مساعدة لبنان مادياً وإنما تدعمه سياسياً. وعليه فإنّ الحكومة اللبنانية معنية بتلقف أيّ عرض يأتيها من الدول الشقيقة والصديقة لحلّ أيّ أزمة نعيشها في لبنان، وأزماتنا كثيرة ومتشعّبة، ونحن بحاجة في هذه المرحلة لمن يمدّ لنا يد المساعدة من دون شروط…
وختاماً نقول إنّ هناك مسؤوليات كبيرة ملقاة على عاتق الحكومة الجديدة، واستبشرنا أنّ لدى أعضائها الخبرات والقدرات العلمية التي تمكّنهم من العمل على النهوض باقتصاد البلد المنهك بفعل سياسات سابقة خاطئة، لا سيما على الصعد المالية والمصرفية… والحلول متوافرة كما شرحنا آنفاً، ولا مجال بعد اليوم للحديث عن ضغوط من هنا وهناك لأنّ وصول المازوت الإيراني أثبت أنّ ما يُحكى عن ضغوط ليس سوى فقاعة وهمية تزول كلياً حين يتمّ اتخاذ القرارات الجريئة والصحيحة…
*خبير مالي واقتصادي