المطلوب فلسطينياً في عام الانتظار
سعادة مصطفى أرشيد*
جرى الاتصال الأول بين الرئيس الفلسطيني والرئيس الأميركي بعد سنة تقريباً من انتخاب الأخير، وكان ذلك أثناء معركة سيف القدس بين المقاومة في غزة والاحتلال، وكما كان بسبب تداعياتها والخشية الأميركية – «الإسرائيلية» من امتدادها شعبياً للضفة الغربية وللداخل الفلسطيني المحتل، فالشعب الفلسطيني كان قد أبدى حتى حينه، مقداراً عالياً ولافتاً من التوحد في الدفاع عن القدس، وذلك في المقدمات التي سبقت المواجهة العسكرية (سيف القدس)، والتي رفعت راية القدس واتخذتها عنواناً، الأمر الذي تجلى في مواجهات باب العمود، ثم حي الشيخ جراح وتهجير سكانه من الفلسطينيين وإسكان مستوطنين غاصبين غرباء في بيوتهم، وفي الدفاع عن المسجد الأقصى في مواجهة الجمعيات التلمودية والاستيطانية المتطرفة والمدعومة من جهات سياسية عليا في تل أبيب، ونذكر كيف زحف الفلسطينيون من سائر الضفة الغربية ومن أعالي الجليل إلى النقب، وفي أجواء القيظ والحر وصيام رمضان، واجتازوا كلّ العراقيل التي وضعت في طريقهم للوصول بأعدادهم الغفيرة للرباط في باحات الحرم القدسي .
في تلك المهاتفة اليتيمة، أسمع الرئيس الأميركي الرئيس أبو مازن كلاماً طيباً، طربت له الأوساط الفلسطينية، إذ أكد التزامه والتزام بلاده بموقف قال إنه (ثابت)، وهو ما تسعى إليه الإدارة الأميركية، يؤمن بحل الدولتين، ويرفض السياسات الاستيطانية في الضفة الغربية، كما يرفض أي تغيير في الوضع القائم في الحرم القدسي، ثم على رفض تهجير المقدسيين من منازلهم في القدس الشرقية المحتلة (في إشارة إلى حي الشيخ جراح)، كما أكد أن سياسة بلاده ترفض الإجراءات الأحادية من قبل أي طرف .
تفاءلت أوساط رام الله بذلك وعقدت الآمال العريضة على تلك المكالمة، وبناء عليها تم العمل على عقد قمة بين الرئيسين، وكان الموعد المفترض أن يكون اللقاء على هامش افتتاح أعمال الدورة الأخيرة للجمعية العمومية، لكن اعتذار البيت الأبيض حال دون ذلك، وأذاع حالة من الإحباط، بخاصة عندما رددت الصحافة أقوالاً نسبت لموظفين أميركان كبار، تقول إن ليس للرئيس الأميركي في هذه المرحلة ما يبحثه مع الرئيس أبو مازن، الأمر الذي تجلى في عدم سفر الرئيس إلى نيويورك والاكتفاء بإرسال كلمة مسجلة عبر فيها عن إحباطه، كما عن تساؤله حول جدية ما قاله الرئيس بايدن له، وعن شكوكه في المسار السياسي الذي سار فيه والذي لم يأت بنتيجة، هكذا قال أبو مازن .
طرح الرئيس في خطابة المسجل ما يبدو وكأنه يمنح العالم و»إسرائيل» فرصة أخيرة، ومهلة مقدارها سنة واحدة، وذلك للعودة إلى مسار عملية التفاوض الذي يؤتي نتائج تحقق إقامة الدولة الفلسطينية على حدود الرابع من حزيران 1967، وإلا فإنّ القيادة الفلسطينية ستكون مضطرة للذهاب باتجاه خيارات أخرى ستكون على طاولة رام الله وأجندتها، ومنها العودة للمطالبة وتنفيذ قرار التقسيم (181)، الأمر الذي يطرح سؤالاً استفهامياً كبيراً، إذ طالما أن «الإسرائيلي» ومن ورائه العالم، غير مستعدّ للقبول بكلّ هذه التنازلات فهل سيقبل بالعودة إلى قرار كان قد صدر قبل خمس وسبعين سنة؟ وإذا كان ذلك ممكناً، فلماذا لا نطرحه من اليوم، لا بل لماذا لم نطرح هذا الخيار من قبل؟
يحار الفلسطيني أمام ما تقدّم، إذ إنّ ميزان القوى الحالي هش وضعيف ومائل في غير مصلحته، وأن تعديل هذا الميزان لصالح الكفة الفلسطينية ورفع منسوب القوة، أمر ليس بالسهل ولكنه أيضاً غير مستحيل إن توافرت الإرادة السياسية أولاً، ومن ثم العمل الجادّ والمثابر ثانياً، بعيداً من منطق شراء الوقت وانتظار المعجزة، ومحاولة كل طرف من طرفي الانقسام التنصل من واجباته وتحميل الآخر مسؤولية إفشال الاتفاق، أو وضع شروط تعجيزية، فالموضوع من الأهمية والجدية بمكان يحتاج للاستعداد لخسارة مكاسب شخصية لحساب مصالح عليا، وهو الأمر الذي يبقى موضع شك في ظل بعض من التركيبة الحالية، التي ترى تناقضاً بين مكاسبها وبين المصلحة العليا .
يحتاج الفلسطيني إلى إبداء قدر من الجدية والمسؤولية، وإلى إعادة تعريف المشروع الوطني، وذلك بالشروع في إعادة بناء النظام السياسي الجديد، من خلال انتخابات سياسية، والعمل على إنهاء الانقسام، وفي ظن كاتب المقال أن هناك ظروفاً دولية وإقليمية مواتية لعمل جاد ينتهي بالنجاح – مرة أخرى إن توافرت الإرادة السياسية -، إذ إن لحظه فراغ جزئي يعيشها العالم، تنشغل بها الإدارة الأميركية وتحالفها الإنكليزي – الأسترالي في التموضع في جوار الصين، وتخرج من تحالفها قوى أطلسية – غربية، لطالما كانت في صفها، وتطلب – تأمر – الإدارة الأميركية من حلفائها ومحسوبيها تهدئة الأوضاع وتخفيض التوتر على مستويات عدة، الأمر الملاحظ في زيارة قائد الجيش السوري للأردن، ثم المكالمة الهاتفية بين الرئيس السوري والملك عبدالله، وفي تحسّن العلاقات المصرية – السورية ولقاء وزيري خارجية البلدين على هامش الجمعية العمومية، وكذلك في الغزل السعودي – الإيراني، وفي المبادرة اللبنانية ووصول ناقلات النفط الإيرانية من دون أن يعترضها أحد، وفي عدم ذهاب «الإسرائيلي» إلى جولة تصعيد في غزة واستبدال ذلك برفع مستويات القتل والاغتيال بالضفة الغربية إرضاء لجمهورهم المتطرف .
استعاض بايدن عن لقائه بأبي مازن، بإيفاد المبعوث الأميركي للشرق الأوسط هادي عمرو إلى المنطقة، حيث اجتمع بالرئيس أبو مازن والقيادة الفلسطينية الاثنين الماضي في رام الله، ووفق ما أوردته وكالة الأنباء الفلسطينية الرسمية (وفا) أن الرئيس أعاد على مسامع ضيفة مضمون خطابة المسجل، وذكره بحديث بايدن الهاتفي، وأكد استعداد السلطة الفلسطينية للذهاب إلى عملية سياسية قائمة على قرارات الشرعية الدولية، وعلى عقد مؤتمر تحت رعاية الأمم المتحدة والرباعية، فيما لم تورد وكالة الأنباء شيئاً عما قاله المبعوث الأميركي، أما ما لم يقله أبو مازن، أنّ كلام ليل بايدن سريعاً ما يمحوه نهاره، وأنه في حين يقول للفلسطينيين كلاماً طيباً ولسبب ظرفي مؤقت، فإنه يقول ويفعل من أجل عكسه لصالح «الإسرائيلي» الذي يتمتع بدعمة اللا محدود، كل ذلك يؤكد أن الفلسطيني الرسمي لم يغادر المربع الذي تموضع به منذ عام 1993 .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ