أسعار البنزين: بردٌ في إيران ونارٌ في لبنان
} د. علي النمر*
أدّت العقوبات الأميركية المفروضة على الجمهورية الإسلامية الإيرانية إلى خلق فرص جدّية لتطوير كافة القطاعات الإنتاجية من خلال بلورة رؤية اقتصادية شاملة عُرفت بنموذج الاقتصاد المقاوم. ومن أبرز إنجازات هذا النموذج تحوّل إيران من دولة مستوردة لمادة البنزين إلى دولة مصدّرة لها في عام 2019. وتفيد بيانات مصلحة الجمارك الإيرانية أنه تمّ تصدير أكثر من 7.8 مليون طن من البنزين بقيمة 2.913 مليار دولار خلال السنة المالية الإيرانية المنتهية في 19 مارس/ آذار 2021، ويبلغ إجمالي إنتاج البنزين في الوقت الحاضر 110 ملايين ليتراً يومياً، فيما تستهلك إيران ما يقارب 96 مليون لیتراً يومياً لسدّ حاجة السوق الداخلي. فضلاً عن ذلك، فإنّ إيران كانت قد بدأت بتصدير وقود الطائرات في الشهر الثالث من العام 2019.
ومن الإنجازات الأخرى التي تحققت بفضل نموذج الاقتصاد المقاوم تطوير البنى التحتية وقطاع النقل والمواصلات، وربط المدن الإيرانية ببعضها البعض من خلال تطوير شبكة السكك الحديدية وتوسيع الطرق وإنشاء العديد من المطارات في المدن الكبرى، إضافة إلى حفر أنفاق المترو، واستخدام وسائل نقل متطورة كالباصات السريعة (BRT) داخل المدن الكبرى بهدف تسهيل حركة المواطنين وبكلفة متدنية جداً (تبلغ كلفة تذكرة الباصات السريعة من جنوب طهران إلى شمالها بحدود 20 كلم 2350 تومان، أي ما يعادل 8.7 سنت).
وسعياً منها لتطبيق العدالة الاجتماعية من خلال دعم الطبقة المتوسطة وذوي الدخل المحدود، وكذلك تقنين استهلاك البنزين والحدّ من تهريبه، لجأت الحكومة الإيرانية إلى إصدار قرار رفع أسعار البنزين.
في البداية، قبل الوقوف على بعض تفاصيل القرار، لا بدّ من الإشارة إلى أنّ سعر صفيحة البنزين (20 ليتر) قبل القرار كان 20.000 تومان، أيّ ما يعادل 0.72 $ بحسب سعر الصرف الحالي (1$ = 27800 تومان)، أما بعد قرار رفع أسعار البنزين أصبحت الأسعار على الشكل التالي:
1 ـ السعر المدعوم: تمّت زيادة 50 بالمائة عن السعر القديم، حیث أصبح سعر ليتر البنزين 1500 تومان (5.40 سنت)، أيّ أنّ سعر صفيحة البنزين 1.08$.
2 ـ السعر غير المدعوم: ارتفع 3 أضعاف عن سعره السابق، حيث أصبح سعر ليتر البنزين 3000 تومان (10.79سنت)، وبذلك ارتفع سعر صفيحة البنزين ليصل إلى 2.16 $، أيّ ضعف سعر البنزين المدعوم.
كما تضمّن القرار أيضاً حصصاً مدعومة شهرياً للسيارات على أساس سعر ليتر البنزين 1500 تومان، أي يبلغ سعر صفيحة البنزين 1.08$.
ـ 60 ليتراً شهرياً لجميع السيارات الخاصة التي تعمل فقط على البنزين، و30 ليتراً شهرياً للسيارات التي تستخدم البنزين والغاز معاً.
ـ 400 ليتراً شهرياً لسيارات الأجرة التي تعمل فقط على البنزين. و200 ليتراً شهرياً للسيارات التي تستعمل البنزين والغاز معاً.
ـ 25 ليتراً شهرياً للدراجات النارية.
ـ 200 ليتراً شهرياً لسيارات الشحن الاقتصادية التي تعمل فقط على البنزين، و60 ليتراً شهرياً للسيارات التي تعمل على البنزين والغاز معاً.
ـ 300 ليتراً شهرياً لسيارات الشحن غير الاقتصادية التي تعمل على البنزبن، و120 ليتراً شهرياً للسيارات التي تعمل على البنزين والغاز معاً.
ـ 500 ليتراً شهرياً لسيارات الإسعاف.
ـ 120 ليتراً شهرياً لحافلات المدارس.
ـ 750 ليتراً شهرياً لسيارات الأجرة التي تعمل خارج المدن.
وتجدر الإشارة إلى أنه يوجد في إيران 21 مليون سيارة نشطة تعمل فقط على البنزين، ويتمّ استهلاك حوالي 64 مليون ليتر يومياً من البنزين على أساس الأسعار المدعومة، أيّ سعر ليتر البنزین 1500 تومان.
وعلى الرغم من ارتفاع أسعار البنزين يبقى سعر صفيحة البنزين غير المدعوم 2.15$ الأقلّ سعراً في العالم، مقارنةً مع الدول النفطية كالسعودية حيث يبلغ سعر صفيحة البنزين فیها حالياً 12.42$.
یهدف قرار رفع أسعار البنزين إلى الحدّ من التهريب، حيث كان يتمّ تهريب هذه السلعة خلال السنوات الأخيرة بسبب انخفاض سعر البنزين في إيران مقارنة مع الدول المجاورة. كما یساهم في تقنين الإستهلاك، حيث كان يبلغ معدل استهلاك البنزين في إيران ضعف المعدل العالمي، كما انّ الزيادة في الأسعار ستوفر 10% من مجمل الاستهلاك العام لمصلحة التصدير. كلّ ما سبق سيُساهم في توفير عائدات جديدة لخزينة الدولة. ويُساهم أيضاً في تطبيق العدالة الاجتماعية، من خلال تخصيص جزء كبير من العائدات المحصلة من زيادة الأسعار، والتي تقدّر بـ 31000 مليار تومان لذوي الدخل المحدود والطبقة المتوسطة، تُدفع شهرياً تحت عنوان دعم معيشي لـ 18 مليون أسرة إيرانية بحدود 60 مليون شخص، أيّ ما يعادل 70% من مجموع عدد السكان.
نتيجةً لقرار رفع أسعار البنزين، نستطيع التأكيد أنّ دعم المواطن الإيراني جاء من جهتين، الأولى عبر دعم كميات من البنزين كحصص شهرية، والثانية عبر توفير دعم مالي شهري لكلّ مواطن. يمكن القول إنّ هذا الدعم سيساهم في زيادة القدرة الشرائية للمواطن وتمكينه من شراء الحاجات الأساسية، فيزيد الاستهلاك، الذي بدوره يؤدي إلى زيادة رافعة الطلب على السلع، وهذا يخلق أيضاً زيادة على الإنتاج، مما يوفر فرص عمل جديدة تساهم في تخفيض معدل البطالة.
من هنا يمكن أن نؤكد على أهمية دور نموذج الاقتصاد المقاوم في معالجة المشاكل الاقتصادية والاجتماعية وغيرها بقدرات محلية، وليس كما يحدث في العديد من الدول التي تعالج اقتصادها على أساس الاستدانة والاستيراد من الخارج كما هو الحال في لبنان حالياً.
بالعودة إلى لبنان، وعلى الرغم من أنّ أكثر من نصف اللبنانيين يعيشون تحت خط الفقر، اتخذت السلطة الحاكمة قرار رفع أسعار البنزين دون أيّ رؤية اقتصادية هادفة على عكس ما جری في إيران.
ارتفعت أسعار البنزين مجدّداً وفق دعم سعر صرف الدولار 14000 لتصل صفيحة البنزين إلى 241400 ل.ل. بمعدل أكثر من 10 أضعاف عن سعرها، حيث كانت تتراوح في حدود 24000 ل.ل سابقاً. وعلى الرغم من ارتفاع الأسعار، لا تزال مادة البنزين غير متوفرة في السوق، لأنها عرضة للاحتكار والتهريب والتخزين.
قرار ارتفاع أسعار البنزين في لبنان يستفيد منه التجار والمحتكرون وشركات التوزيع والمهرّبون وبعض الفاسدين من السياسيين.
بما أنّ مادة البنزين هي سلعة ضرورية وليست كمالية، فإنّ هذا القرار ينطوي على تداعيات اقتصادية واجتماعية، والذي يؤدّي بدوره إلى ارتفاع في أسعار العديد من السلع والخدمات، مما يضعف القدرة الشرائية للمواطنين، وخاصة ذوي الدخل المحدود والمتوسط.
وجاء هذا القرار على خلفية عدم قدرة البنك المركزي على تغطية دعم المحروقات، بحجة عدم المساس بالاحتياطي الإلزامي (14 مليار دولار من أموال المودعين في المصارف اللبنانية)، وهذا يعني عملياً رفع الدعم عن هذه السلعة الاستراتيجية، الذي هو بمثابة موت الاقتصاد اللبناني سريرياً، أيّ أنّ لبنان يتجه نحو كارثة اقتصادية واجتماعية، وخاصة دون اتخاذ أيّ بديل أو أيّ خطة اقتصادية موازية لهذا القرار.
كان من المفترض على السلطة اللبنانية قبل اتخاذ قرار رفع أسعار البنزين، أن تعمد بالتوازي إلى اتخاذ قرارات اقتصادية تحاكي قرارات الجمهورية الإسلامية، بحيث تخدم شرائح ذوي الدخل المحدود والمتوسط وتخفف الأعباء المعيشية عنهم