الآخر…
} كارميلا ابراهيم
قرأتُ بحثاً علمياً لأستاذي في كلية التربية الجامعة اللبنانية الدكتور وليد حمود، عنوانه: «مؤشرات التحويل الديداكتيكي في مناهج التعليم الديني في لبنان والصندوق الأسود». مجلة الآداب الإلكترونية.
ضمن خلاصة البحث يذكر الدكتور حمود: «لا يمكن أن نحكم على نتاجات التعليم الديني إلا في سياق ما يحدث على أرض الواقع.»
دائماً كنت أطرح سؤالاً على نفسي عن بداية الحرب الأهلية اللبنانية: كيف لمجتمع آمن أن يتحوّل بين ليلة وضحاها بعضه إلى قتلة أو مغتصبين أو لصوص أو مؤيدين لهذه الأفعال والآخرون إلى ضحايا وعجّز؟
ألم يتلقوا تربية اجتماعية ودينية، تدعو إلى التسامح والمحبة والأخلاق الحسنة التي يتمسّك بها هذا المجتمع، قولا وإعلاماً وأفلاماً وكنائس وجوامع؟
ومن ثم، ألا يعتبر انتقادها علنية من المحرمات؟
كيف يمكن لشخص ما، أن يقتل شخصاً آخر بحجة أنه من الطائفة أو الدين أو الحزب المعادي، دون أن يبقى لأسابيع، لسنين، لعمر دون راحة بال؟
ألم نسمع خلال هذه الحرب، أنّ أحد القديسين أو الأولياء أو الأنبياء… حارب مع رجال قرية ما ضدّ القرية المحاذية؟
أليس موجوداً في الصلوات، كل الصلوات، مقطع ما يقول: «احمنا يا رب وأنصرنا على أعدائنا؟»
من هو العدو؟
العدو هو أي شخص يهدّدنا بالخطر، إنْ كان معنوياً أو مادياً، وقد يكون ضمن العائلة الواحدة، مثل النزاع على الإرث، أو الخلاف على تحديد ملكية ما أو على حقوق ومصالح، صغيرة وكبيرة، عائلية أو قبلية، ثم تأخذ أبعاداً سياسية أو دينية تخفي بداخلها مصالح نفعية أو حقوقاً مهدورة.
يصبح العدو عدواً لدى الاعتقاد بوجود اختلافات جوهرية بيننا «نحن» الخير وهم «الشر»، ما يؤدي عادة إلى نزع الطابع الإنساني عن الآخر، هذا العدو، وبالتالي يصبح تعاملنا معه عنيفاً وعدائياً.
يذكر إدوارد سعيد في كتابه «فرويد وغير الأوروبيين»، نقلاً عن كتاب فرانز فانون «معذبو الأرض»، عن قيام الطبيب النفسي السريري الأوروبي، بتشخيص حالة المواطن الأصلي (أيّ سكان المستعمرات الأصليين) على أنها حالة قاتل متوحّش، يقتل دون سبب.
وبعد اضطلاعي على الكتاب تفاجأت بما أورده فانون عن أطباء ومؤتمرات طبية ورجال قانون أوروبيين وخبراء في منظمة الصحة العالمية، في النصف الأول من القرن العشرين، يؤكدون أنّ الإنسان الأفريقي له دماغ غير متطوّر بيولوجياً.
ومن جهة أخرى يذكر أنطون سعاده في كتابه «نشوء الأمم»، «الإسكيمو» يسمون أنفسهم فقط إنويت أيّ الناس، وكذلك هنود إلينويز Illinois ينعتون أنفسهم بإلينويز أيّ بشر. ومن حكايات الإسكيمو انّ الأوروبي (الغريب) نشأ من زواج إمرأة منهم وذئب قطبي» (الفصل السادس من الكتاب).
عموماً يأخذ الآخر المختلف شكلاً غريباً وغير واقعي، نسقط عليه عقدنا ومخاوفنا وحاجاتنا وتفوّقنا، يظهر ذلك في كتب التعليم الديني المنتشرة في مجتمعنا كما ورد في بحث الدكتور حمود: «أضحى الآخر، موضوع استبعاد في الكتب، ولم يرد ذكره فيها إلا نادراً، ومن باب سلبي أحياناً، كاستحضاره تارة لنبيّن تفوّقنا عليه ثم نعود نغرقه في الغياب».
وفي سياق هذا الاختلاف، سأروي قصة واقعية حصلت معي، وتحصل وسوف تحصل مع كثيرين تحمل فيها كثيراً من البراءة والسذاجة والأفكار المقولبة:
أبي روم أورثوذكس، أمي كاثوليكية ملَكية، نعيش في منطقة بيروت الشرقية، وسط أكثرية مارونية. أبي معتزّ جداً بأورثوذكسيته، له اتجاهات فكرية وسياسية خاصة تختلف بعض الشيء عن السائد ولكن غير معلنة.
أمي تريد أن تكون منسجمة مع محيطها.
وكنّا، كعائلة، نمارس جميع طقوس المحيط الدينية، نعيّد نفس عيد الفصح ولكن في توقيت مختلف، كنائسنا مختلفة بالشكل من الداخل وطقسنا الديني مختلف.
في بعض الأحيان، ربما بهدف المزاح أو التنمّر، يُردّد على مسامعنا، من الأقربين أو الأبعدين «روم أورثوذكس طرقو بوكس ـ عظمكن أزرق ـ مال الروم للبطون ـ روم الإسلام».
أما نحن كأطفال مراهقين، كنا نشعر بالتناقض والغربة.
وشهر أيار عند المسيحيين التابعين للطقس الغربي «الشهر المريمي» طقس خاص شعبي للتبجيل بالعذراء مريم، والدة يسوع.
وخلال الحرب الأهلية اللبنانية في الثمانينات من القرن الماضي، كانت العادة في المبنى الذي نسكن فيه أن تجتمع النسوة كلّ يوم مساء في منزل إحداهن ليصلين «تسعاوية العذراء مريم» وهي عبارة عن ترانيم جميلة تكرّم بها العذراء. فكانت النسوة يتنافسن على قول البيت الأول
(تعداد صفات مريم العذراء) والبقية يردّدن من بعدها «تضرّعي لأجلنا»، وتقفل الصلاة بالترنيمة الشهيرة «يا أمّ الله»، فكانت دائماً من نصيب الفائزة بأجمل صوت وهي «إم جورج» أقصر النسوة قامة وأكثرهن حنكة، تقف في الصدارة، شابكة يديها على صدرها متضرّعة للسيدة العذراء، وتشدو الترنيمة بكلّ اعتزاز، وعندما تصل إلى نهاية مقطع الصولو: «وتحنني على موتانا»، تدخل النسوة بالترنيم الجماعي فتحدث تلك «البوليفونيا» المميّزة الطبيعية، كلّ واحدة منهن بطبقة صوتية مختلفة. وبعد الصلاة، ينتهي الاجتماع بشرب القهوة والأحاديث النسائية.
وجدنا ضالتنا! أنا وإخوتي، بقيادة أخي الأكبر تعرّفنا على مجموعة شبابية دينية أورثوذكسية، وبدأنا نتعرّف على طقوس الكنيسة الأورثوذكسية، ومنها «مديح والدة الإله» الذي يُقام كلّ نهار جمعة خلال الصوم الكبير.
وحلّ الشهر المريمي وانتشر لباس الرداء الأزرق نذراً لطلب ما من العذراء، وصدحت أصوات النساء بالترانيم كلّ يوم مساء.
وعندما أتى دور منزلنا باستقبالهن، أفهمنا أمي أننا أورثوذكس ونصلي «المديح» فإنْ أتت النسوة إلى منزلنا، عليهن أن يصلين معنا صلاتنا كما نصلّي معهن صلاتهن. عبثاً حاولت أمي تغيير رأينا، باللين، بالتهديد، بالرجاء، لم ينفع معنا شيء!
وضعنا أمي في موقف حرج جداً، ماذا ستقول لجاراتها؟ كيف ستواجههن؟
المسكينة سلّمت بالأمر الواقع وأبي أخذ موقفاً حيادياً على غير عادته.
وفي المساء وضع أخي طاولة في مقدّمة الصالون وعليها أيقونة «والدة الإله». وعندما حضرت النسوة وجلسن في الصالون، تمركز أخي في زاوية منه بمساندة أختي وأنا وبدأنا ننشد المديح ومطلعه: «بواجب الاستئهال حقاً نغبط والدة الإله الدائمة الطوبى، البريئة من كلّ العيوب…» وبين كلّ مقطع وآخر نردّد: «إفرحي يا عروس لا عروس لها.»
جلست النسوة في صمت عظيم يتفرّجن علينا وكأنهن في مسرح. وأمي لا تعرف ماذا تفعل، تدخل وتخرج باستمرار من وإلى المطبخ، تارة تحمل صينيّة قهوة وتارة حلوى وتارة ماء، وتبتسم لهن وتحاول ملاطفتهن.
ولما انتهينا، شعرنا بالنصر، وهكذا، نحن الثلاثة، أتممنا انتقامنا من الموارنة، الممثلين بأمّ جورج وأمّ طوني وأمّ شربل وأمّ إيلي واللائحة تطول بالأمهات. وربما في تلك اللحظة المجيدة، شعرنا بتطواف الشيروبيم والكاروبيم (ملائكة يمجّدون الله باستمرار). ولكن المفاجأة كانت بالانتظار: فقد وقفت إحداهن وقالت: «شو يا ستات ما صار لازم نصلي!»
المراجع:
ـ مؤشرات التحويل الديداكتيكي في مناهج التعليم الديني في لبنان والصندوق الأسود. وليد حمود.al-adab.com.
ـ إدوارد سعيد: «فرويد وغير الأوروبيين» ـ دار الآداب ـ بيروت لبنان. طبعة1 .2004.ص28.
ـ فرانتز فانون: «معذبو الأرض» ـ دار القلم ـ بيروت لبنان. ترجمة: سامي الدروبي وجمال الأتاسي. دون تاريخ. ص 214-215.
ـ أنطون سعاده: «نشوء الأمم» ـ الأعمال الكاملة ـ المجلد الثالث. مؤسسة سعاده للثقافة ـ طبعة 2001 ـ الفصل السادس ص 73.