هل مستحيل الرهان على إنقاذ لبنان من سلطة المال والفساد؟
} علي بدر الدين
لطالما انتظر اللبنانيون تأليف الحكومة تحت أيّ مسمّى كان، علها تفتح كوة في جدار الأزمات والمشكلات الاقتصادية والمالية والاجتماعية والمعيشية المتفاقمة المتراكمة والمزمنة الضاغطة عليهم بقسوة، او»أضعف الإيمان» تشكل بارقة ضوء وأمل لهم في الآتي من الزمن، تخرجهم من أنفاق ودهاليز الظلم والظلام والاستبداد، وتنقذهم من الفقر والجوع والبطالة والذل والحرمان المزمن، وتكبح جماح الشهوة إلى السلطة، وتقوّض أسس الفساد، وتفرمل جموح السياسيين وجنوح الفاسدين والسارقين و»مافيات» الاحتكار والسوق السوداء، وتضع حدا للمتلاعبين بسعر صرف الدولار الذي يحلق بسبب أو بدونه على حساب «الليرة» التي بلغت مستوى من الرخص وقلة القيمة والقوة الشرائية، وتحوّلت إلى مجرد أرقام لا تغني ولا تسمن، ولا تفي بالمطلوب، وقد أغرقتهم بالفقر المدقع، وراكمت تعداد الفقراء والمحتاجين، حيث تقدّر الإحصائيات والأبحاث والدراسات، أنّ ما يقارب الثمانين بالمئة من الشعب باتوا تحت خط الفقر، والحبل على الجرار، وربما يصل إلى ما فوق التسعين بالمئة، والبقية هم الأربعة بالمئة التي امتلكت ثروات البلد ومقدراته منذ تشكل النظام السياسي الطائفي والمذهبي والتحاصصي، يضاف إليهم أثرياء الحروب الجدد، والذين خاضوها تحت شعارات وعناوين طائفية ومذهبية وسرقوا وأفسدوا وسيطروا بالقوة والنفوذ الميليشاوي والسلطوي، على مقدرات الدولة ومؤسساتها الاقتصادية والمالية والإدارية، واستولوا على أموال المودعين اللبنانيين المقيمين والمغتربين في المصارف، بتواطؤ مكشوف ومعلوم، بين حاكم مصرف لبنان وجمعية المصارف وبعض الطبقة السياسية والمالية.
هذا الواقع السياسي والاقتصادي والمالي والخدماتي والمعيشي، الذي يعيشه المواطنون ويعانون من تداعياته وأخطاره، وقد أنزلهم إلى «سابع ارض»، وتحكم بهم العوز والحاجة و»الشحار والتعتير» بسبب سياسات الانهيارات المتتالية المعتمدة من عهود وحكومات ومنظومات سياسية ومالية وسلطوية فاسدة سابقة ومتعاقبة عبرت، بالتأكيد لا تتحمّل مسؤوليته حكومة «معاً للإنقاذ» التي «صرلها بالقصر من مبارح العصر» ولم تعقد سوى ثلاث جلسات وزارية، آخرها كانت «متفجّرة» على خلفية التحقيق العدلي الذي يحتاج إلى تصويب في انفجار مرفأ بيروت، ما أدى إلى تعليق جلساتها، بانتظار ما ستؤول إليه المساعي والاتصالات والبحث عن مخارج ترضي الأطراف الممثلة فيها أو بعضها على الأقل، غير انّ أحداث الطيونة الدامية وسقوط الشهداء والجرحى وما تخللها وأعقبها من مواقف عالية السقف، وتحميل المسؤوليات، أضاف أزمات وتعقيدات جديدة على المشهد العام في لبنان، بكلّ تفاصيله وتشعّباته، وقلب الأوضاع رأساً على عقب، وساهم في تجميد عقد الجلسات الحكومية إلى أجل غير مسمّى، خاصة أنّ مسار الأحداث السائدة على غير مستوى سياسي وقضائي وأمني اقتصادي ومالي متراكم ومستجد، لا توحي مؤشراته ولا معطياته، إلى التهدئة وولوج المعالجة أو الحلول بالحدّ الأدنى المطلوب في المدى القريب، بل على العكس حرك الجمر تحت الرماد، وحبس الأنفاس خشية من إيقاظ الفتنة النائمة، والتذكير بلغة ومصطلحات الحرب الأهلية بكلّ كارثيتها ومأساويتها وأخطارها التي إن تجددت قد «لا تبقي ولا تذر»، ولن يخرج أحد منها من دون خسائر في الأرواح والدماء والأرزاق والممتلكات، سوى المنظومة السياسية على ما ظهر في حروب وفتن سابقة متنقلة، لأنها محصنة في قصورها وأبراجها ومحمية بميليشياتها وقبضاياتها المستأجرين.
ما يبعث على قليل من «الأمل»، رغم رفع منسوب الخطاب السياسي والطائفي والأمني المتصاعد، ان لا أحد من القوى السياسية يريد إعادة تجربة الحرب الأهلية، ولا الدخول في آتون الفتنة، أقله في العلن، وإن كان البعض يرى فيها، أنها تخدم مصلحته وتوجهاته، واستنهاض بيئته على أبواب الاستحقاق الانتخابي النيابي، الذي قد تسبقة، مناورات وإغراءات وتجييش بوسائل مشروعة وغير مشروعة، لزوم «أم المعارك».
في سياق الدعوة إلى «التفاؤل» الحذر، الموقف المستجد لوزير الثقافة المتهم برفع «النبرة» في الجلسة الأخيرة لمجلس الوزراء القاضي محمد وسام المرتضى، الاستجابة إلى حضور أيّ جلسة حكومية يدعو اليها رئيس الحكومة نجيب ميقاتي، وهذا يؤشر الى أنّ عقدة أزيلت من أمام عربة الحكومة، التي عليها ان تعاود جلساتها اليوم قبل الغد، ليس لأنها «ستشيل الزير من البير»، بل لأنها ضرورة وطنية وحاجة لا بدّ منها، لترجمة أقله الحدّ الأدنى من بيانها الوزاري، وما وعدت به الشعب اللبناني، الذي يكتوي ويحترق بنار الأسعار وانعدام الخدمات وطغيان الاحتكار والفساد والنهب والتحاصص.
إنّ انتظار حصول حلّ سحري أو معجزة غير متوقعة، لتصويب اتجاه البوصلة والعودة إلى المسار الصحيح، وتجاوز ما استجدّ من أحداث وتطورات، قرار غير مفيد، والرهان عليه خاسر، لأنه يتصاعد الخط البياني للأزمات «العفوية» او المفتعلة او الصادمة من غير جهة محلية وإقليمية ودولية، وسعيها لجني المزيد من المكاسب والجولات والنقاط واستثماره في نتائج وتداعيات المفاوضات الجارية على نار حامية على مستوى الداخل والخارج، إما لحفظ ماء الوجه، أو لكسب موقع سلطوي، او مادي أو رتبة «شرف» وانْ كانت كلها أو بعضها على حساب وطن ودولة يتهاويان، أو على حساب شعب غرق بالفقر ويتآكله الجوع وتفتك به الأمراض والأسباب معروفة ومجربة.
هل تعيد السلطة حساباتها، والقليل من العافية إلى جسد الحكومة التي انهكته وأهلكته، وتزيل الفخاخ من أمامها، وتفتح لها الطريق لتستكمل جلساتها وتتحمّل مسؤولياتها رغم الصعاب وتراكم الازمات، التي تمظهرت بعد قرارات جلسة مجلس النواب، المهدّدة بالطعون، وربما عدم التوقيع عليها أو على بعضها، على قاعدة ما تم التداول به سياسياً وإعلامياً؟ هذا ما لا يطمئن بطبيعة الحال، وينذر بأزمات جديدة قد تطفو على السطح، وتطيح بالأمن والاستقرار والانتخابات، ومفاوضة صندوق النقد الدولي، وربما تطيير حق لبنان في نفطه وغازه وحدوده البحرية، لا سيما في توقيت زيارة الوسيط المنحاز الأميركي إلى بيروت هوكشتاين، في أجواء مشحونة في لبنان سياسياً وأمنياً وقضائياً. أليس هذا، يقتضي خروج السلطة السياسية بكلّ منظومتها من مصالحها وغبائها ومشاريعها وأجنداتها قبل السقوط المدمّر للبلد في الهاوية، وهو الواقف مهزوزاً على حافتها…