الويل لمن دفعوا الشعب إلى اليأس من الانتفاضة
ناصر قنديل
– لن يرحم التاريخ الذين يسمون أنفسهم بقادة جماعات الواجهة في التحرك الشعبي الكبير الذي شهده لبنان قبل عامين، بعدما شكل هذا المشهد الشعبي إعلاناً بأن الشعب جاهز للتحرك، وشرارة رفع تعرفة الواتساب لا تفسر المشهد، بقدر ما تشير إلى أن الناس أرادت اختبار فرصة الشارع المستقل والموحد، بديلاً عن الانغلاق الطائفي والولاءات الحزبية، وبعد سنتين يبدو هذا الشعب وقد اكتوى بما هو أشمل وأخطر وأبشع من السبب الظاهر لتحرك تشرين أول مرة، مستكيناً مستسلماً يائساً من جدوى الشارع، متقبّلاً لقدر الجوع والقهر، وقد نهبت ودائعه، وقطعت عنه الكهرباء وصار البنزين عملة نادرة، وبلغ سعر الدولار مستويات خيالية، وضاعت فرص العمل، وباتت الهجرة أمنية الشباب، حيث تبدو تافهة كل التبريرات التي يسوقها جماعات الواجهة في حراك تشرين، مثل غلاء البنزين الذي يحول دون قدوم الناس من المناطق كأن الشوارع تغص بسكان العاصمة وينقصها مدد المحافظات، فالحقيقة التي لا تحجبها كل غيوم الأرض، هي أن الناس اختبرت فرصة الشارع واكتشفت الخديعة الكبرى فأقسمت ألا تعيدها.
– لم تفوّض الناس أحداً برفع شعارات يزعم أنها أهداف نزول الناس إلى الشارع، بينما كان السقف الوحيد الجامع للغاضبين هو الغضب من السلطة والشك بصلاحها لإدارة شؤون البلد، ولم تشكل الناس برلماناً ولا اختارت هيئة قيادية موحدة، لتمنح جماعات الواجهة لنفسها حق تلبيس الناس ثوباً لم تشترك في اختياره، فذهب أغلب هذه الجماعات نحو محاولة توظيف الغضب باتجاه عنوان سياسي معلوم أنه سيتكفل بتقسيم المشاركين وفقاً لفالق القسمة التاريخي بين اللبنانيين، وهو الموقف من سلاح المقاومة، وكاذب ومنافق من يزعم من جماعات هذه الواجهة أن هذا لم يكن السبب الرئيسي لتفرق جمع الشارع، لأن من يؤمنون بالمقاومة انفضوا وعادوا إلى بيوتهم، ومن يؤمنون بأولوية المواجهة مع المقاومة لهم مرجعياتهم الحزبية والطائفية التي تخوض هذه المواجهة فلماذا يتركونها، وسقط بذلك مبرر الخروج على الطوائف والأحزاب والزعامات، وعاد أغلب الذين انتفضوا إلى طوائفهم وزعاماتهم وأحزابهم، ومن السخافة الحديث عن مسار ثوري يحتاج التراكم والصبر كتفسير للمشهد القائم، فالانتفاضات تبدأ صغيرة وتكبر، وليس العكس، والوعي يتجذر نحو الخروج من العب الطائفية، لا بتثبيت العودة إليها، وتضييع الفرصة الجامعة بين اللبنانيين بتلبيسها عنواناً يتصل بالهوية يقسم لبنان السياسي منذ ولادته، كان المؤامرة الكبرى على أنظف وأشمل تحرك شعبي عابر للطوائف في تاريخ لبنان.
– كان يمكن الحفاظ على وحدة الشارع ونبضه لو لجأت جماعات الواجهة لتأكيد رفض أي محاولة لزج الانتفاضة في خطوط الانقسام اللبناني التقليدي وتأكيد الحرص على عدم الانزلاق إلى أي ملف خلافي بين الشوارع اللبنانية، وفي طليعتها موضوع سلاح المقاومة، وهذا يعني تسليم الجامعات الطامحة سياسياً من لاعبي الواجهة بوضع أنانيتها الحزبية جانباً لصالح مصلحة الانتفاضة وحيوية الشارع ووحدته، فلا كلام عن ثورة وتغيير وإسقاط نظام من دون جواب موحد على القضايا الوطنية الكبرى، تسير وراه جموع الشعب بقلب رجل واحد، وفي طليعة هذه القضايا كيفية التعامل مع ثنائية المواجهة مع خطر العدوان والاحتلال وسلاح المقاومة، وهذا عنوان لم ينضج عليه بعد جواب لبناني جامع، ما يعني التواضع في ما يطلب من الشارع، لجهة تركيز الأهداف على عناوين قادرة على الجمع، وفي طليعتها قضية مثل مصير الودائع المصرفية والمطالبة ببرمجة استعادتها، والضغط على مصرف لبنان لوقف التحويلات المالية إلى الخارج، وربما تتاح فرصة الضغط لتغيير حاكم المصرف المركزي، وربما لاحقاً يكون ممكناً الضغط لتشكيل محكمة خاصة بالفساد تفتح الملفات العالقة مثل الأملاك البحرية، ومغارة علي بابا في وزارة الاتصالات، والتدقيق الجنائي المالي.
– لم يكن أخذ الانتفاضة نحو السياسة عملاً وطنياً بل تخريباً مقصوداً، تحت شعارات ثورية منافقة تخفي رغبات وطموحات سلطوية لجماعات الواجهة الراغبين بتسلق الشارع لدخول جنة السلطة نيابياً ووزارياً، أو تخفي أجندات خارجية تقوم جماعات الواجهة المدعومة من المؤسسات الإعلامية العملاقة المتشابكة في تركيبتها ومصالحها مع مافيات السلطة والفساد والمصارف ومصرف لبنان بصورة خاصة، فكانت مهمة جماعات الواجهة محددة انهاء الانتفاضة وإعادة اللبنانيين إلى العلب الطائفية، ما لم يكن ممكناً جرهم وراء شعارات العداء للمقاومة، سواء تحت عنوان تحميلها زوراً مسؤولية الأزمة الاقتصادية، أو ربط الحل الاقتصادي برضا قوى دولية وعربية تناصب المقاومة العداء، أو تحت مزاعم سيادية تدعو لحصرية السلاح بيد الجيش ولا تدعو لتسليح الجيش بما يردع العدوان والاحتلال تجنباً لإغضاب الأميركي، الذي كان نقطة الحل والربط في إدارة جماعات الواجهة ووسائل الإعلام التي كانت تساندها.
– يذهب اللبنانيون اليوم نحو حتفهم، ولا يفكرون بالنزول إلى الشارع، فقد تعلموا الدرس، أن الطوائف أكثر أماناً، بفضل وبركة هذه النخبة التي شكلت واجهة حراك تشرين.