إعادة ترتيب الإقليم وفق الأجندة الأميركية… أو على إيقاع إنجازات محور المقاومة؟
} د. ميادة إبراهيم رزوق
بنظرة بانورامية لمشهد المنطقة من بحر البلطيق، مروراً بأفغانستان نحو بحر قزوين وجنوب القوقاز إلى قوى ودول محور حلف المقاومة، وكأنّ العدوين اللدودين الولايات المتحدة الأميركية وروسيا الاتحادية كلاً مع حلفائه، خاصة بعد قمة جنيف «بوتين – بايدن» في 16/06/2021 على رقعة شطرنج المنطقة يعيدون ترتيب أحجارهم وتنضيد ملفاتهم قبل الجلوس على طاولة التسويات الكبرى، والتي قد تُحسم قبل الوصول إليها إذا تدحرجت المنطقة نحو حرب كبرى شاملة، نستبعد حدوثها وفق الوقائع والمعطيات لدى المحورين.
بدأت الولايات المتحدة الأميركية وضمن مخطط الخروج الأميركي من غرب آسيا بإعادة تموضع استراتيجي جديد بترتيب مجموعة من الأوراق في عهد الإدارة الأميركية السابقة برئاسة دونالد ترامب بما يحقق نشر الفتنة وزعزعة الاستقرار، وتطويق إيران وتشديد الحصار الدبلوماسي والاقتصادي، وعرقلة مشروع الحزام والطريق الصيني، وضمان الأمن القومي لكيان الاحتلال الصهيوني، فكانت البداية مع اتفاقيات «ابراهام»، اتفاقيات التطبيع بين كيان الاحتلال الصهيوني وبعض الأنظمة الخليجية كالإمارات والبحرين بالإضافة إلى السودان (الذي لم يوقع أحرفها النهائية) والمغرب، استكمالاً لسيناريو صفقة القرن، ونقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس، والاعتراف بالسيادة «الإسرائيلية» على الجولان المحتل، بهدف إضفاء الشرعية على كيان الاحتلال الصهيوني، وتطويق الشعب الفلسطيني، وتصفية القضية الفلسطينية التي باتت عبئاً على الأنظمة الرجعية العربية فينبغي التخلص منها، بالإضافة إلى نسج تحالفات إقليمية بأبعاد استراتيجية أخرى ترتبط بمحاولة بناء خطوط دفاع أمامية لحماية الأمن القومي لكيان الاحتلال الصهيوني، ترتكز على التعاون والتنسيق التكنولوجي والاستخبارتي والعسكري، خاصة إذا ما تضمنت عمليات رصد واعتراض جوي في مواجهة تطور قدرات محور المقاومة على مستوى الطائرات المسيرة، وصواريخ «كروز» وغيرها وفق ما تؤكده التقارير «الإسرائيلية»، وتعززت الحاجة إلى هذا المخطط، بالإضافة إلى قرار وزارة الدفاع الأميركية «البنتاغون» بنقل «إسرائيل» من القيادة الأوروبية للجيش الأميركي «إيكوم» إلى القيادة المركزية «سنتكوم» التي تشمل الشرق الأوسط، بما يسمح بتطور التنسيق بين كيان الاحتلال الصهيوني والأنظمة المطبعة استجابة لدعوات وجهتها جماعات موالية لـ «إسرائيل» من بينها «المعهد اليهودي للأمن القومي الأميركي» وهو مجموعة مقرها واشنطن تدعم التعاون العسكري الوثيق بين الولايات المتحدة الأميركية و»إسرائيل»، فقد أوضح تقرير المعهد اليهودي للأمن القومي أنه في حين أدى وجود «إسرائيل» ضمن نطاق عمليات القيادة العسكرية في أوروبا إلى منافع متبادلة واضحة على مر السنين، فإن أولوية «سنتكوم» هي «مواجهة إيران وقوى التطرف الأخرى في الشرق الأوسط». وأضاف التقرير «جميع شركائنا في المنطقة، بما في ذلك إسرائيل يتحدون حول وجهة نظر مشتركة لهذا التهديد، واتخاذ خطوات جريئة مثل الاتفاقيات الإبراهيمية لمواجهته بشكل تعاوني»، وأتى هذا الانضمام عقب إعلان السعودية في 5 كانون الثاني من العام الحالي اتفاقاً بدعم أميركي بإنهاء الخلاف مع قطر التي تستضيف أكبر قاعدة عسكرية أميركية في المنطقة، وتتمركز فيها القيادة المركزية الأميركية، وبالتالي سيتمثل ذلك بدايةً بوجود عسكري «إسرائيلي» في بلدان الأنظمة المطبعة في وفود من الضباط أو الشرطة أو الخلايا الاستخبارية، وذلك في ضوء استمرار المسار التصاعدي لمحور المقاومة في اتجاهين، اتساع نطاقه الجغرافي وتقدمه العسكري، مقابل فقدان كيان الاحتلال الصهيوني للعمق الاستراتيجي، ودونية إمكاناته على غير مستوى، وما ضاعف هذه الحاجة أيضاً فشل رهانات كيان الاحتلال على الخطط الأميركية لإسقاط النظام في إيران أو إخضاعه، كما الفشل في باقي ساحات محور المقاومة وهذا ما تضمنته تصريحات «قائد جبهة إيران» اللواء طال كالمان «رئيس الشعبة الاستراتيجية والدائرة الثالثة» لصحيفة «معاريف» بتاريخ 07/09/2021 «الأمر المدهش أنه على الرغم من الأثمان الثقيلة على المواطن الإيراني، والعقوبات الأميركية الثقيلة، والكورونا، والحضيض الاقتصادي الداخلي الأصعب في إيران منذ الحرب مع العراق في سنوات الثمانينات، إلا أنها تواصل سعــيها إلى تنفيــذ استراتيجيتها» متابعاً أن «محور المقاومة أخذ بالتوســع ويخوض معنا تنافساً استراتيجياً بعيد المدى». وأضاف» أنّ هذا التعــاون يستهدف توفير الحماية لإسرائيل في مواجهة تطور القدرات العسكرية الصاروخية والجوية لمحور المقاومة»، متابعاً: «ماوراء ذلك، يصــبح لنا عمق، فدولــة إســرائيل صغيرة وليس لديها حالياً عمــق، والصورة المعلوماتيــة المسبقة تسمح له بالاستعداد بشكل أفضــل، وأيضاً بمعالجة التهديدات البعيدة». وحذر كالمان من أنّ «تهديــد الصواريخ الدقيقة ليست بمستوى التهديد الوجــودي النووي، لكنــه ليس بعيداً عنه»، ونبّه إلى أنّ الصواريخ الدقيقة ليست حكراً على «حزب الله» في لبنان بل هي تهديد تراكمي يشمل كل ساحات الحرب، مقراً بأنّ لدى إيران مخزوناً كبيراً من القدرات الصاروخية التي تتحول إلى دقيقة بمديات تتجاوز الـ 1000 كلم، إضافة إلى تهديدات مماثلة في اليمن والعراق وسورية، ولذلك يجب توسيع قوس المواجهة ضد إيران، ووفق ما سبق يتمكن كيان الاحتلال الصهيوني من الولوج العملياتي بدون قيود إلى البر والبحر، وبإمكانه إرسال سفنه إلى البحر الأحمر وبحر العرب وحتى الاقتراب من خليج عمان.
استمرت الإدارة الأميركية الحالية على نهج سلفها لاستكمال ترتيب أوراق أجندتها، وبخطوات متسارعة بعد قمة جنيف «بوتين- بايدن» وفق التالي:
ـ انسحبت من أفغانستان بمشهد مذل بعد أن أعادت إنتاج «داعش» وتدعيمه وتعزيزه بنقل عناصر إضافية لرفده من سورية والعراق، لضمان نشر الفوضى وتقويض الاستقرار الأمني، خاصة بعد سيطرة حركة طالبان على الحكم في أفغانستان، فبدأت هذه الحركة التكفيرية الوهابية «داعش» بتفجير المساجد والحسينيات والمدارس وقتلاً وذبحاً للأبرياء في مسلسل متواصل، حيثما وجد مسلمون من طوائف متعددة، لزرع الفتنة المذهبية بأجندة تديرها الولايات المتحدة لنشر الإرهاب والفوضى بما يقوض شراكة الصين مع الدول المجاورة ويعمل على تخريب مبادرة الحزام والطريق بكامل فروعها، ويهدد دول الجوار بتمدد الإرهاب إلى داخلها.
ـ حدوث توترات بين إيران وأذربيجان اللتين تجمعهما قواسم ثقافية واجتماعية ودينية، مع عبث تركي وحضور «إسرائيلي» وفقاً للمايسترو الأميركي:
ـ لعزل إيران عن المنطقة، من خلال منع استخدام الأراضي الإيرانية لربط منطقة نخجوان بـأذربيجان، وبالتالي قطع الاتصال الحدودي بين إيران وأرمينيا، وبالتالي قطع إحدى طرق المواصلات بين إيران وأوروبا.
ـ ربط تركيا (العضو في الناتو) ببحر قزوين عبر أذربيجان، وبالتالي توسيع حدود الناتو حتى بحر قزوين، بما يؤدي إلى تغيرات جيوسياسية في منطقة القوقاز، لن تسمح بها إيران ولجارتها الشمالية الغربية تركيا بالبدء بهذه المغامرة وتعميق هذه التوترات.
ـ تواجد قوات «إسرائيلية» وعناصر من تنظيم «داعش» على الأراضي الأذربيجانية وعلى حدود إيران، بما يجعل أذربيحان ساحة خلفية للكيان الصهيوني للتآمر على إيران، حيث من باكو ووفقاً لمسؤولين إيرانيين تمت هجمات «إسرائيلية» استهدفت البرنامج النووي الإيراني، واغتيال العالم النووي البارز محسن فخري زاده.
لذلك لجأت إيران إلى مناورة عسكرية على طول الحدود مع أذربيجان900 كلم «فاتحي خيبر» مما دفع باكو إلى العودة الدبلوماسية، حيث لدى أذربيجان مشاريع اقتصادية مهمة مع إيران مثل السكك الحديدية التي تربط أذربيجان بالخليج عبر مدينة أستارا، وكذلك خط النقل البري بين البلدين، ولايبدو أن هذه التوترات ستصل إلى أماكن خطرة.
ـ محاولة زرع كمائن متفرقة ونشر الفتن في العراق ولبنان من خلال الانتخابات العراقية، ومجزرة الطيونة في بيروت لتقليص النفوذ السياسي لتيار المقاومة والحشد الشعبي في العراق، وحزب الله في لبنان، بالإضافة إلى نزع سلاح المقاومة أو تورطه في حرب أهلية.
على المقلب الموازي يحقق المحور المناهض للهيمنة الأميركية وحلف محور المقاومة تقدماً متسارعاً في كافة الميادين نذكر منها:
ـ بدء العمل التجريبي بخط أنابيب السيل الشمالي الذي يزود أوروبا بالغاز الروسي.
ـ إنجاز الجيش اليمني الوطني واللجان الشعبية انتصارات ميدانية بمجموعة من العمليات المتتالية آخرها عمليتي فجر الانتصار وربيع النصر اللتين أدتا إلى استكمال تحرير معظم محافظة مأرب ومحافظة شبوة مدن الموارد بالغاز والنفط والماء، وبالتالي إضافة بعد اقتصادي للبعد العسكري بالتحرير.
ـ استكمال تحرير الجنوب السوري من الجماعات الإرهابية، وعودة سورية إلى دورها الإقليمي ومداها الحيوي ومكانتها الدولية عبر التنسيق الأمني بقرار الإنتــربول الدولي رفع الحظر عن دمشق، والبوابة الاقتصادية بالتنســيق مع مصر والأردن ولبنان، وفتح معبر نصيب – جابر الحــدودي، وإعــادة إحياء خط الغاز العربي، ووصول الغاز المصري والكهرباء الأردنــية إلى لبنان عبر الأراضي السورية، وكسر بعض من تفاصيل (قانون قيصر)، بعد وصول قوافل النفط الإيرانية إلى ميناء بانياس، ثم بيروت براً، بتحدّ صريح وواضح للعنجهية والبلطجة الأميركية و»الإسرائيلية».
ـ بدء الجيش العربي السوري مع حلفائه باستكمال تحرير الشمال السوري من الاحتلال التركي ومجاميع العصابات الإرهابية التكفيرية التابعة له من خلال بدء المعركة من مدينة سرمدة الني تقع على الحدود السورية – التركية، والتي لم تتعرض للقصف منذ سبع سنوات، وشمل القصف مقرات هامة لفصيل «هيئة تحرير الشام» الإرهابي، ومنها مقر اقتصادي «شركة محروقات وتد»، بالإضافة إلى مركز نفوس وقيادة الشرطة التابعة لهم، وبالتالي استهداف كل المؤسسات التي سعت تركيا أن تثبتها في إدلب كبديل عن مؤسسات الدولة السورية، وأن أهم أهداف هذه العملية العسكرية رفض تتريك الشمال السوري، وإنهاء الوضع الشاذ فيه.
ـ عودة طهران في الأسبوع المقبل إلى مفاوضات الاتفاق النووي في فيينا بشروط إيرانية وفق سياسة الخطوة بخطوة، والتي تبدأَ بأن يقوم الأميركيون برفع العقوبات بالكامل، خاصة النفطية والمالية، لتقابلها إيران بالعودة إلى الاتفاق النووي وخفض نسبة تخصيب اليورانيوم من 60% إلى 3,5%، وخفض إنتاج أجهزة الطرد المركزي،….
وسبق كلّ ذلك معركة «سيف القدس» التي خاضتها فصائل المقاومة الفلسطينية نصرة للقدس، التي كشفت ماهية معادلة «إسرائيل أوهن من بيت العنكبوت»، نحو تكريس معادلة قواعد اشتباك جديدة «القدس تعني حرباً إقليمية»، ومنذ أسابيع قليلة عملية نفق الحرية «سجن جلبوع» التي نفذها الأسرى الأبطال الستة قبل إعادة اعتقالهم، والتي هزمت منظومة الاحتلال الأمنية والعسكرية والاستخبارية، وشكلت نقطة تحول جديدة في مسار الصراع العربي الصهيوني.
وفي الختام، نذكر ما نقلته صحيفة «جيروزاليم بوست» عن رئيس المؤتمر اليهودي العالمي رونالد لودر «إن خسارة تل أبيب التضامن الصريح عالمياً في المعركة مع غزة ضاعف الخطر الوجودي على إسرائيل»، وعلى أهمية خسارة الرأي العام، إلا أنّ الانقسام الذي يهدد وجود «إسرائيل» ليس الانقسام في الداخل «الإسرائيلي» فقط بل في العالم كله، كما تحدث عن تراجع الولاء لـ «إسرائيل»، واختراق أعدائها لحلفائها الأكثر إخلاصاً لها في الولايات المتحدة الأميركية، وهذا ماأكده أيضاً الكاتب سيث فرانتسمان بأنّ حركة المقاومة الفلسطينية وصلت إلى دعم شعبي كبير بعد الحرب الأخيرة على غزة، في الوقت الذي استهدفت الاحتجاجات إدانة «إسرائيل» في العديد من البلدان، ونشرت مقالات تنتقدها في جميع أنحاء العالم، وأضاف: «كما قادت الصين جهوداً في الأمم المتحدة لإدانة إسرائيل، واتهم أعضاء اليسار المتطرف في الحزب الديمقراطي في الولايات المتحدة إسرائيل بممارسة الفصل العنصري، ودعوا إلى وقف مبيعات الأسلحة»، كما أكد تراجع دعم «إسرائيل» حتى بين المؤيدين الرئيسيين لها في الولايات المتحدة كالإنجيليين.
في الخلاصة، لا يزال كيان الاحتلال الصهيوني يقف على «إجر ونص»، خوفاً من انتقام المقاومة اللبنانية القادم لشهدائها لا محالة، وقد يقف الآن على رجل واحدة بعد توعد بيان غرفة عمليات حلفاء سورية «بالرد القاسي» رداً على الغارات «الإسرائيلية» على تدمر وسط سورية التي انطلقت عبر سماء الأردن ومنطقة التنف السورية المحتلة من الأميركيين منذ خمسة أيام.