مِن ترسيم الحدود البحرية مع فلسطين المحتلة إلى ترسيم حدودٍ رادعة لتنازلات يُراد لنا تقديمها للعدو…
د. عصام نعمان*
تعثّرت حكومة نجيب ميقاتي في مواجهة الأزمات والتحديات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأمنية مذّ نالت ثقة مجلس النواب. فقدت أيضاً ثقتها بنفسها، كما ثقة الرأي العام، بعد مجزرة الطيونة وتداعياتها، فامتنع رئيسها عن دعوة مجلس الوزراء إلى الاجتماع بدعوى انتظار توافق أركان المنظومة الحاكمة على مقاربة مشتركة لمعالجة تداعيات المجزرة المشؤومة وانعكاساتها على التحقيق فيها كما على التحقيق في جريمة تفجير مرفأ بيروت. بذلك أصبحت، في الواقع، حكومة تصريف أعمال ليس إلاّ.
هل يُعقل أن يكون في مقدور حكومة هذه حالها أن تتخذ قرارات صائبة ووازنة في قضايا مصيرية أو أخرى تتعلق بمصالح لبنان العليا؟
ربما لهذا السبب، ولغيره أيضاً، أحجم رئيسها كما رئيس الجمهورية ميشال عون ورئيس مجلس النواب نبيه بري، عن إعطاء الوسيط الأميركي عاموس هوكستين أيّ وعدٍ في هذه الآونة باتخاذ قرار قريب في قضية النزاع على ترسيم حدود المياه الإقليمية بين لبنان وفلسطين المحتلة.
هوكستين كشف بدوره سبباً آخر لعدم جاهزية لبنان لاتخاذ قرار في هذا الشأن: وجود فجوة واسعة في المواقف بين قياداته السياسية من جهة، ومن جهة أخرى تباين حيال طروحات الوفد العسكري اللبناني المكلف بالتفاوض غير المباشر مع العدو الصهيوني من خلال الأمم المتحدة.
الحقيقة أن ثمة أسباباً عدّة تحول دون أن يكون لأركان المنظومة الحاكمة كما لقادة التكتلات السياسية موقفٌ موحّد من الأمور الآتية:
أ ـ حقوق لبنان في مياهه الإقليمية المحاذية لحدود فلسطين المحتلة. ففي حين يتمسك بعض أهل السلطة بالمرسوم 2011/6433 الذي حدّد للبنان حقوقه في المنطقة البحرية المتنازع عليها بمساحة لا تتجاوز 860 كيلومتراً، تتمسك قيادة الجيش اللبناني بدراسة أعدّها ضباط لبنانيون مختصون تعطي لبنان مساحة إجمالية لا تقل عن 3500 كيلومتر.
ب ـ تعديل المرسوم 2011/6433 بغية تصحيح حقوق لبنان في المنطقة المتنازع عليها وإبلاغه إلى الأمم المتحدة. ذلك أن بعض أهل السلطة يعارض إجراء التصحيح مخافةَ إغضاب الولايات المتحدة فتتخلّى عن دور الوسيط الأمر الذي يُعقّد المفاوضات غير المباشرة مع العدو، وقد يلجأ هذا الأخير بدعمٍ منها إلى مباشرة التنقيب عن الغاز متجاوزاً حقوق لبنان في المنطقة المتنازع عليها.
ج ـ محاولة الوسيط الاميركي الجديد عاموس هوكستين تمرير مشروع اتفاق بين الجانبين اللبناني و»الإسرائيلي» يقضي بتكليف شركة أجنبية او أميركية التنقيب عن الغاز في المنطقة المتنازع عليها وتوزيع الأرباح الناجمة عنها على الجانبين عبر حساب مشترك وفق المساحة المخصصة لكٍّل منهما بقرارٍ من الشركة ذاتها.
د ـ تشكيل الوفد اللبناني في المفاوضات، بحسب طلب أميركا، من مسؤولين وخبراء مدنيين في حين أن اتفاقية الهدنة مع «إسرائيل» تقضي بأن يكون التفاوض بين الجانبين عبر ضباط عسكريين لكونهما ما زالا في حالة حرب. ذلك أن فريقاً من أهل السلطة والقوى السياسية يعارض صيغة الوفد المدني لئلا يُفسّر الأمر بأنه بداية تطبيعٍ مع العدو.
حكومة متعثرة كحكومة ميقاتي حالياً تواجه كل هذه التحديات والخلافات والاختلافات ليست قادرة على اتخاذ قرارات مصيرية تتطلبها القضايا الاستراتيجية الراهنة، وإذا ما تجرأت على اتخاذها فالأرجح أنها ستنطوي على تنازلات مخزية للبنان في هذه الآونة، فلماذا الإصرار على متابعة التفاوض مع أميركا مباشرةً ومع «إسرائيل» مداورةً طالما لا مكاسب وافرة في ذلك؟
«إسرائيل» لاحظت هشاشة وضع لبنان الداخلي فأقدمت على تكليف شركة أميركية التنقيب عن النفط والغاز في منطقة محاذية للمنطقة المتنازع عليها، وأوحت بأنها ستتمادى في هذا المسار ما يهدد حقوق لبنان السيادية والاقتصادية في مياهه الإقليمية.
تهديدات «إسرائيل» دفعت الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله إلى إطلاق تهديد مضاد يوم الجمعة الماضي بقوله: «إنّ قدرات المقاومة أعدّت لحماية ثروة لبنان من الأطماع الصهيونية، وإذا كان العدو يتصوّر أنه يستطيع أن يتصرف كما يشاء في المنطقة المتنازع عليها قبل الحسم فهو مشتبه. ففي الوقت المناسب عندما ترى المقاومة أن نفط لبنان أصبح في دائرة الخطر فستتصرف على هذا الأساس».
قادة «إسرائيل» فهموا تماماً ما يعنيه السيد نصرالله، وأنه جاد جداً في تهديده: تدمير منشآت العدو النفطية والغازية الكائنة قرب المنطقة المتنازع عليها إذا ما حاول الاعتداء على حقوق لبنان السيادية في هذه المنطقة.
إذ تعزّز مركز لبنان التفاوضي بتهديد نصرالله الجاد للعدو، فقد أصبح في وسع أهل السلطة الاستقواء في وجه الوسيط الأميركي، حامل الجنسية «الإسرائيلية» والمجنّد سابقاً في جيشها، وعدم الانزلاق إلى الموافقة على ترتيبات تنتقص من حقوقه السيادية في مياهه الإقليمية.
إلى ذلك، فإنّ لبنان لن يخسر إذا ما أرجأ إلى زمن آخر مناسب عملية التنقيب عن الغاز في المنطقة المتنازع عليها لأن لديه 8 قطاعات أو بلوكات Blocks غيرها على امتداد ساحله زاخرة بمقادير وافرة من النفط والغاز، وقد آن الأوان ليباشر بلا إبطاء التنقيب فيها لسدّ حاجاته من الغاز بغية تشغيل معامل الكهرباء المتوقفة عن العمل ما يتيح للبلاد الحصول على طاقة نظيفة بدلاً من الاعتماد على الوقود الأحفوري – المازوت مثلاً- الأغلى ثمناً والأكثر تلويثاً للطبيعة والبيئة.
أجل، آن الآوان لرسم حدودٍ رادعة لتنازلات مخزية يُراد للبنان أن يقدّمها للعدو.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ