(انقطاع وسائل التواصل الاجتماعي وتبعاته)
إن العالَم اليوم أصبح ـ على رغم اتساعه ـ صار في مقدورنا أن نقرأ أحداثه ونتابع تفاصيله أولاً بأول، ذلك لأن في يد كل واحد منا هاتفاً ذكيّاً، فتح مغاليق الأسرار في الكون الفسيح، وأوصل لكل أهل هذا الكوكب كل خبر، وصوّر له لحظات الأفراح والأتراح جميعاً،
منذ توغّل هذا (الهاتف الذكيّ) في مشاعرنا وقلوبنا، صار جزءاً من حياتنا، بل صار هو حياة الكثيرين منا، نعَم، له حسناته التي يسديها لنا في صورة ثورة ثقافية، وتلميح حضاريّ، وتفاسير تاريخية، حسناته التي تضمّنت تصويراً حيّاً لكل بلدان العالم، إلماماً بتصرفات الناس وعاداتهم، حتى في المأكل والملبس والمشرب والتجول والعطلات والتسوق، ممّا جعل الكثيرين منا لا يكاد هاتفه يفارق يده أو جيبه أو سيّارته، وربما اندفعنا خلف هذا السلوك ناسِين أنفسنا وأهلِينا وأعمالنا، أو فقل: مقصّرون في شؤوننا أجمع بسبب احتلال هذا الجهاز لعقولنا ومشاعرنا،
لو يعود بنا الزمن عودةً طويلة الأمد ـ مثلاً لوجدنا الألفة والمحبة أسمى وأنبل الصفات بين الأحبة والجيران وزملاء العمل… لوجدنا الأرحام موصولة غير مقطوعة، لوجدنا في عُرس جميع أهل قرية يفرحون ويتقاسمون الابتهاج، ويتبادلون الابتسامات، لوجدنا أن مريضاً اجتمع حوله أهله وأقرباؤه وأقرانه يخفّفون عنه ويواسون ألمه، لوجدنا الفِطرة وكأنها لم تُخدَش… حقل ممتد الظلال، وساقية دائمة العطاء، وأسرة ملتصقة لكأننا نحسبهم جميعاً شخصاً واحداً… نعَم، فِطرة سليمة من عبث الإنسان وجشعه وحروبه.
ما الذي جعلنا متفكّكين تائهين حيارَى؟ إنها عقولنا المشتتة بين ألف خبر على مواقع التواصل، وقلوبنا التي ملأها شغف المعرفة الدائم بكل جديد على تلك المواقع، وكيف لا… ونحن محدِّقون في شاشات هواتفنا معظم أوقاتنا، وكأنما نحن مخلوقون لذلك لا لعمارة الأرض، وصيانة الأعراض، ونشر الإخاء، أضف على ذلك ذاك الزحام الممتدّ في رأس كلٍ منا بكيفية (شحن الهاتف) و (صيانة الهاتف) و (تطبيقاته وتتبّعه إذا فُقِد) و (الهرولة نحو هاتف أذكى، صاحب قدرة أعلى) إذن ـ الهاتف بالفعل غزَانَا فكريّاً وعاطفيّاً.
منذ أيام انقطعت وسائل التواصل بضع ساعات، في فايسبوك وماسنجر وواتس وإنستغرام، ولو أنصفنا في وصف هذه الساعات لقلنا: إنها كانت أثقل على نفوسنا من إعصار أو حرب عالمية، كل أهل الأرض بكل لون ولغة أصبح يسأل: ما السبب؟ وهل هو هاكر صينيّ؟ أم عطل طارئ؟ أم طامّة كبرى؟ وبعضنا سيَّسَ المسألة بادعائه أن الصين تستعرض قوتها لتثبت للدنيا أنها أقوى من أميركا ومارك،
مأساة الناس بعد مرور هذه الساعات لمسناها في كتاباتهم على مواقع التواصل نفسها، ومن زحمة كلمات الحزن تحسب أن كل واحد كان ينعي أخاً له فارق الحياة شابّاً يافعاً، وبعد بضع ساعات نظرت السماء نظرة رحمة للأرض فألهمت (مارك) فكرة أو اختراعاً يمنع القتل والجريمة والحرب والزلازل والبراكين والأعاصير،
مجرد حرماننا من التطلع في الشاشات لبضع ساعات تركنا نرى الحقيقة واضحة تماماً، وهي أننا لم تعد تُحتَلُّ أراضينا بصواريخ سكود أو قنابل نووية، بل أصبحنا نُحتَلُّ نحن بهذه المواقع، حدَّ التسليم والتصديق بأنها الحياة، أو الحياة من دونها جحيم مقيم، وهول وفاجعة وسعير،
هذه الدول عرفتْ كيف تغزو عقولنا وتُلهينا عن العمل، نعم، تراجعت أسهم مارك بنسبة 5 في المئة، لكن علينا أن نسأل أنفسنا: كم شهراً انقطع تيّار الكهرباء عن قرى كاملة في مجتمعاتنا من دون النظر إلى المستشفيات أو التجارة أو… أو…؟ وكم ملياراً اكتنزه عِلية القوم على حساب الجوعى والمهضومين واليتامى؟ كم وكم وكم وكم… ولم تتراجع أسهم أحد، بل تزداد ثرواتهم بعظيم باطلهم، ونزداد نحن انتظاراً للحظة فرج، وقطرة غيث، ورغيف خبز،
لقد نجح مارك ـ على رغم تراجع أسهمه ـ في هدفه الذي هو سطر من كتاب كبير… اسمه: كيف نغزو البشر ـ أو بعضهم ـ ونملك عقولهم من دون مجنزرة أو صاروخ أو قنبلة؟
وفشلنا نحن في تفسير انهيار علاقاتنا ونقمة الله علينا، إذ نسينا أو تناسينا أننا يجب علينا أن نأخذ من النحلة عسلها، وأن نحذر لدغتها في ذات الوقت، وأن نكتفي من الطعام بما يُقيم الجسد لا بما يُتخمه ويُمرضه ويُقعده، وأن نكتفي بشربة من النهر، لا امتلاكه واحتكاره طالما أنه يجري عذباً زلالاً…
بضع ساعات كانت كفيلة بترتيب أفكارنا ومراجعة أنفسنا، وتوجيه اللوم علينا في تقصير بعمل أو قطيعة رحم، أو إهمال مسؤولية، بضع ساعات أرجعتْ القلوب إلى نبض الفطرة السّويّة، بعيداً من شرود الأذهان وهموم البال، وأشجان النفوس، فلا تسألوا بعد قليل: هل ستنقطع وسائل التواصل مرة أخرى؟ وهل سنعاني من شؤم التصاقنا بهواتفنا؟
أجيبك: لن تعود هذه التجربة، فقد كانت مؤشراً واضحاً لمؤسسةٍ ما، أو لدولةٍ ما، أو لكيانٍ ما بأنَّ هناك غزواً حديثاً، ليس لأرض ولا لثروة وإنما غزو لأكمل قيمة في الإنسان، هي قيمة عقله، الذي إذا احتاج ابتكر، وإذا فكّر نجا، لكنه إذا تشتّت وتمزّق أذاق صاحبه مُرّ التعلق الزائف، وجمّل له قبيحاً وقبّح له ذميماً،