مبدأ «عدم» التدخل في الشأن الداخلي… إلى أين؟
د. جمال زهران*
يُعتبر مبدأ «عدم» التدخل في الشؤون الداخلية للأقطار المختلفة في العالم، أحد أهم مبادئ تأسيس العلاقات الدولية بعد الانتهاء من الحرب العالمية الثانية (1945). حيث كان يتم ترتيب العالم لمرحلة ما بعد رحيل الاستعمار الغربي. ولذلك تم إدراج هذا المبدأ في جميع وثائق المنظمات العالمية والإقليمية وفي المقدمة بطبيعة الحال الأمم المتحدة، وسبقتها منظمة جامعة الدول العربية، على رغم أن تأسيسهما في عام واحد. إلا أن الجامعة العربية تأسست في آذار/ مارس 1945، بينما تأسست الأمم المتحدة في أيلول/ سبتمبر 1945.
فالمبدأ الأول في المادة الثانية في ميثاق الأمم المتحدة هو: تقوم الهيئة على مبدأ المساواة في السيادة بين جميع أعضائها. بينما المبدأ السابع ينص على: «ليس في هذا الميثاق ما يسوغ للأمم المتحدة، أن تتدخل في الشؤون التي تكون من صميم السلطان الداخلي لدولة ما…».
وقد تمّ تحرر العديد من بلدان العالم المستعمرة، والتي بدأت في ترسيخ سياسات التحرر والاستقلال والاعتماد على الذات وتبني برامج التنمية الوطنية لصالح غالبية الشعب، في إطار مبدأ إعادة توزيع الثروات في داخل هذه البلدان المستقلة، تحقيقاً لمبادئ العدالة الاجتماعية، واسترداداً للشعب لحقوقه المغتصبة من أيدي القلة التي كانت تعمل في خدمة الاستعمار (مصر 23 يوليو 1952/ نموذجاً).
وقد حذرتنا قيادات وزعامات وطنية قادت بلادها نحو التحرير والاستقلال، من أن الاستعمار قد يرحل من أرض الوطن التي دنسها طويلاً، إلا أنه يمكن أن يعود من الشباك في شكل استعمار اقتصادي، يفرض شروطه، ويمارس ضغوطه، ويحاول فرض الحصار على الدول حتى لا تذهب بعيداً عن الهيمنة الاستعمارية للأبد.
وفي مقدمة هؤلاء (الزعيم جمال عبد الناصر)، وغيره من الزعامات العربية والأفريقية والآسيوية وفي أميركا اللاتينية.
وقد لوحظ أن مبدأ «عدم» التدخل في الشؤون الداخلية وهو الذي وضع في كافة مواثيق المنظمات الدولية والإقليمية، ومنها منظمة «حركة عدم الانحياز» التي تأسست عام 1961، ومنظمة الوحدة الأفريقية في 1963، والتي تحوّلت إلى الاتحاد الأفريقي في 1999، وغيرها من المنظمات في أنحاء العالم والتي تتجاوز عددها الـ 50 منظمة، حيث لوحظ أنّ هذا المبدأ هو مبدأ نظري، تمّ التلاعب به من قبل الدول الكبرى الاستعمارية، وتحايلت عليه، لممارسة الهيمنة على الدول الصغرى والمتوسطة، لكي لا تتمكن من ممارسة دورها المستقل والقائد بعيداً عن هيمنتها وخضوعها لسياسات هذه الدول الكبرى والاستعمارية الغربية على وجه الخصوص.
وتحوّل هذا المبدأ أيضاً إلى واجهة يتمّ التسلل من خلالها، تحت شعارات «التدخل الإنساني (Humunity Intervention)، وشعارات التدخل لمنع امتلاك السلاح النووي، والصواريخ طويلة المدى تحت حجة تهديد السلام العالمي، على حين أن هذه الممارسات الاستعمارية هي قمة التهديد لهذا السلام العالمي. فضلاً عن استخدامات أخرى لهذا المفهوم، ولكن قد تمّ اغتياله تماماً، وأصبح الداخل امتداداً لنفوذ الخارج وبشكل فج. حتى أنه مواجهة «الإرهاب»، أصبح حجة للتدخل لإسقاط أنظمة، بل واحتلال مباشر لبلدان بعينها (أفغانستان عام 2001)، و (العراق عام 2003)، والتدخل البائس العدواني في اليمن وفي سورية وفي ليبيا، في المنطقة الرخوة من العالم المسماة بالمنطقة العربية للأسف. وقد ساعدت أطراف إقليمية عربية، الدول الكبرى في تنفيذ مؤامراتها على المنطقة بشكل سافر، حتى أضحت أنها وكيلة عن هذه الدول الكبرى، بصورة فاضحة.
ومن أسف، أنّ الحالة اللبنانية قد أضحت تجسيداً للتدخلات السافرة من كلّ صوب. فهناك دول غربية (أميركا ـ فرنسا ـ ألمانيا ـ الفاتيكان) تتدخل في الشأن الداخلي اللبناني. وهناك دول عربية بكل أسف تتدخل في الشأن اللبناني (السعودية وغالبية دول الخليج بحكم عضوية مجلس التعاون لدول الخليج)، وهو منظمة إقليمية فرعية، ويؤكد ميثاقها عدم التدخل في الشأن الداخلي للدول الأعضاء!
وهناك دول إقليمية شرق أوسطية أخرى، لها دور في الشأن الداخلي اللبناني. وأضحى الأمر بأن تقرير مصير الشأن اللبناني بيد الأطراف الخارجية (دولية ـ إقليمية سواء أكانت عربية أو غير عربية)، الأمر الذي يؤكد أن «عصمة» لبنان، ليست بيد اللبنانيين، أنفسهم. فتشكيل الحكومة بيد كلّ هذه الأطراف جميعها، وبيد سفاراتها الموجودة داخل العاصمة اللبنانية، بل إن كل طرف سياسي له أجندة أو مرجعية خارجية، ينفذ سياسات هذا الطرف الخارجي أو ذاك. لدرجة أن المشهد بات وكأن الدولة اللبنانية أصبح لديها القابلية للتغلغل الخارجي بصورة غير مطمئنة على المستقبل للشعب اللبناني.
إلى أن جاءت أزمة وزير الإعلام/ جورج قرداحي، وطلب السعودية وورائها عدة دول خليجية يساندونها بلا أية مبررات، إلا محاولة ممارسة القوة والهيمنة على دولة صغرى كلبنان، بهدف القهر، وإزاحة قوة سياسية نافذة كحزب الله من المشهد، وهو ما لم يأت بنتائج طيبة للطرف الخارجي المتعالي على لبنان دولة وشعباً، ويتعمّد الإضرار بمصالحها. ولذلك نقول لرئيس الوزراء، إثبت، واجعل من تصريحاتك تعبير عن الكرامة والاستقلال، فقد مضى عهد الاستعمار وأعوانه وذيوله، وآن الأوان لوقف هذا التدخل السعودي السافر في الشأن اللبناني، وعليكم ضبط الوجهة والبوصلة نحو الشرق، إعمالاً لمبدأ عدم التدخل الخارجي، وتأكيداً للاستقلالية. ومرة أخرى تحية للعروبي الغيور على وطنه الإعلامي الوزير/ جورج قرادحي، على صلابة موقفه ومن يدعمه من قوى سياسية لبنانية أساساً، بعدم الاستقالة، والله المستعان…
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ