لا تدخلوا القضاء في «البازار» وعلى الشعب ألا يستسلم أبداً… أبداً
} علي بدر الدين
عندما تفشّت الرشوة في بريطانيا خلال الحرب العالمية الثانية، أخبر أحد المستشارين رئيس وزرائها آنذاك ونستون تشرشل بالأمر، فسأله: هل وصلت الرشوة إلى القضاء؟ فأجابه المستشار: لا. فردّ تشرشل: إذن بريطانيا في أمان وخير.
ويقول تشرشل: «إذا أردت أن تعرف أيّ شعب في العالم، أنظر إلى برلمانه ومن يمثله فيه، وبعدها سوف تعرف أيّ الشعوب تستحق الرمي بالورود أو بالحجارة»، و»كلّ شعب يستحق الحكومة التي يستحقها»، داعياً الشعوب إلى عدم الاستسلام، وكرّر ذلك مرات عديدة.
لبنان يعاني في هذه المرحلة أزمة على مستوى القضاء، برزت بشكل واضح على صعيدي التحقيق في انفجار مرفأ بيروت وأحداث الطيونة، بعناوين الانحياز في الاستدعاءات وكثرة الدعاوى، والردّ وطلبات الردّ وكفّ يد هذا القاضي او ذاك، إلى أن بلغ السجال الرئاستين الأولى والثانية، في حين اختارت الرئاسة الثالثة «ضربة ع الحافر وضربة ع المسمار»، ما استدعى حضوراً عاجلاً لمجلس القضاء الأعلى، المعني مباشرة بصون القضاء وحمايته، وأصدر بياناً فيه «أنّ ما يتعرّض له القضاء والقضاة من حملات تهم وتطاول تجاوز كلّ الحدود»، ثم دخل نادي قضاة لبنان على الخط، حيث اعتبر «أنّ السياسة والسياسيين ما دخلوا على شيء في لبنان إلا وهدموه، وجاء اليوم دور ما تبقى من قضاء خارج قبضتهم ليطوّعوه، كفى ارفعوا أيديكم عن القضاء رحمة بالبلاد والعباد».
أما عضو كتلة التحرير والتنمية النائب د. ميشال موسى فعلق على ما يحصل بالقول: «القضاء اللبناني كما باقي المؤسسات ليس بخير، والتعويل الأكبر يكمن في إقرار قانون إصلاح القضاء».
هذه عيّنة بسيطة، أو غيض من فيض ما يطفو على سطح القضاء، وهو ما يؤشر إلى مرحلة في غاية الخطورة والتداعيات في حال قبضت السلطة على القضاء وألغت دوره، وأفقدته استقلاليته وهيبته ونزاهته، خاصة إذا نجحت في استجراره إلى مصالحها وأغرقته في وحولها الطائفية والمذهبية، ورمته في أحضانها، وأطاحت بمبدأ فصل السلطات. هذا يعني بكلّ بساطة، أنّ لبنان ستذهب ريحه، لأنّ قوته وديمومته وخلاصه من كلّ أزماته التي لا تعدّ ولا تحصى، تبقى مرهونة بالسلطة القضائية، لأنها تبقى الخرطوشة الأخيرة التي يمكن الاعتماد عليها، لتقويض كلّ أسس الفساد المتفشي في أوصال الدولة وبين الحكام، والذي وصل للأسف إلى معظم الشعب، إما بصمته المريب وإما بإنغماسه فيه «للحس إصبعه»، و»ما حدا أحسن من حدا» بعدما تحوّل الفساد إلى «ثقافة» تعمّمت وانتشرت كالنار في الهشيم، لأنّ المال السائب يعلم الناس الحرام والسرقة والفساد، لانعدام الرادع أو الخوف أو عدم الخشية من أحد، خاصة في ظلّ غياب أو تغييب العدالة والقانون والمحاسبة، وتعطيل الأنظمة والقوانين والمؤسسات والسلطات والصلاحيات والقرارات العملانية، ومن أهمّها الحكومة المعلقة جلساتها، وهي التي قطعت حبل بيانها الوزاري ووعودها وكمّ التفاؤل الذي ضخته بعد تأليفها، وتركت الشعب معلقاً في الهواء وعاجزاً عن الخروج الآمن من حاله الكارثية، على كلّ المستويات الاقتصادية والمالية والاجتماعية والمعيشية والخدماتية التي تتفاقم معاناته وأزماته وتزداد والضغوط عليه من كلّ حدب وصوب، حيث تتحكم «المافيات» وتجار الجشع والطمع والاحتكار، بكلّ مسارات حياته ومعيشته وفي مفاصل الدولة، بتواطؤ وتغطية وحماية وغضّ النظر من المنظومة السياسية الحاكمة، التي ما زالت تتعارك وتتناتش على المصالح الخاصة والتحاصص والمواقع السلطوية، حتى لو أدى ذلك إلى سقوط الدولة وإزالة لبنان عن الخارطة وموت شعب بأكمله جوعاً ومرضاً وقهراً.
ليس صحيحاً على الإطلاق، وضع ما يحصل من أحداث وتطورات وتجاذبات وسجالات وصراعات، واتهامات وتحميل المسؤوليات المتبادلة، ورفع منسوب الخطاب السياسي الطائفي والمذهبي والتحريضي في خانة التحضير للانتخابات النيابية، التي تحتاج إلى الاستنفار، ودقّ نفير التعبئة والاستنهاض للبيئات «الحاضنة» وللجمهور والأنصار والمؤيدين، والقبض المسبق على «أصواتهم»، لأنّ ما يحصل تجاوز فعلاً كلّ الحدود والضوابط والأخلاقيات والمسؤوليات، خاصة أن لا شيء ثابتاً أو يوحي أنّ هذه الانتخابات ستجري في موعدها المقرّر، وما الذي يمنع القوى السياسية والطائفية، التي تعمل على رفع سقوف الصراع والخطاب واصطناع أزمات ومشكلات وأحداث سياسية أو أمنية، أن يكون من أهدافها الإطاحة بالاستحقاق الانتخابي تأجيلاً او تمديداً، لأنها مرتاحة جداً على وضعها النيابي، ولا تريد المغامرة برصيدها من النواب، خوفاً من مفاجآت غير محسوبة أو متوقعة قد تفقدها مكانتها في مجلس النواب، وفي شراكتها وحصصها ونفوذها في القرار السياسي والسلطوي، فضلاً عن أنّ الضجيج السياسي والإعلامي وتكبير الحجر وتقاذف الاتهامات وإسنادها في الأقوال والأفعال والأمثال، ليست لغة مستجدة فرضها التحضير للانتخابات، بل هي صفات متأصّلة في نهج الطبقة السياسية المتواصل منذ ما قبل اتفاق الطائف وبعده والذي يدفع الشعب اللبناني أثمانه الباهظة، والآتي ربما سيكون أقسى وأشدّ وأخطر.
إنّ تدحرج كرة النار قد لا يتوقف عند اشتعال السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية، بل سيطال مصير وطن برمته، ودولة «بأمّها وأبيها وبنيها» وكلّ ما فيها وعليها، إذا لم يستفق الشعب من غيبوبته التي طالت، ويقول كلمته بصوت عال من دون خوف من أحد، لأنه الرهان المعوّل عليه، رغم أنّ التجارب معه لم تكن مشجعة، بل مخيّبة للآمال ومحطمة للأحلام، ولكن لا خيار آخر يمكن الاعتماد عليه للإنقاذ، بعدما سقطت كلّ الرهانات في الداخل والخارج.
لم يبق في الميدان سوى القضاء، فلا تدخلوه في زواريب مصالحكم وبازاراتكم، والشعب ثانياً، الذي عليه ألا يستسلم أبداً، ابداً، أبدا…