أبعِدوا عن المغتربين كأس صراعاتكم السياسية والطائفية والسلطوية…
} علي بدر الدين
يعترف اللبنانيون ويقرّون بأنّ الطبقة السياسية الحاكمة منذ ثلاثة عقود ونيّف، حققت «نجاحاً» غير مسبوق، في تقويض أسس الدولة ومؤسساتها، وفي وضع اليد والسيطرة على سلطاتها ومفاصلها ومقدراتها الاقتصادية والمالية العامة والخاصة، والسطو على أموال المقيمين والمغتربين في المصارف، بالشراكة والتواطؤ مع حيتان المال والاحتكار وتجار الدولار في السوق السوداء. واللبنانيون وحدهم يحصدون التداعيات والانهيارات التي تتوالى في كلّ القطاعات الاقتصادية والمالية والخدماتية والإنتاجية التي أفقرت الناس وجوّعتهم وحرمتهم من كلّ حق لهم، وبإذلالهم على محطات الوقود وفي المصارف والمستشفيات والصيدليات والأفران وعلى الطرقات وحتى في داخل بيوتهم، حيث استوطنت فيها القلة والحاجة والقهر اليومي حتى أصبحوا «ع الأرض يا حكم»، وتحوّلوا إلى عاطلين من العمل، ومن دون معيل أو معين أو مغيث، وقد تبخر شقاء عمرهم وتعب أيامهم في الوطن والاغتراب بعد أن نهبت أموالهم وتمّ تهريبها إلى مصارف الخارج، أو تكدّست في خزائن القصور والمحميات الأمنية في غرف مقفلة بإحكام، وفيها كلّ شروط الحماية حتى لا يتآكلها الصدأ، ولا تفتك بها الفئران، في حين أنّ الشعب اللبناني لم يستفق بعد من غيبوبته، ولم يغادر تبعيته وارتهانه وسكوته، رغم معاناته وأنينه ووجعه وفقره وهمومه وبحثه عن قوت يومه وعياله من دون طائل…
ولأنّ تجار الهيكل و»المافيات» المحمية، مسحت كلّ شيء، وأكلت الأخضر واليابس، واحتكرت الغذاء والدواء والماء والدولار، وفتحت أسواقها السوداء لابتلاع ما تجده في طريقها، حتى» زلطت» الشعب من حقوقه وأمواله ورغيف خبزه، وتركته يصارع «طواحين الهواء» وينازع في صحراء قاحلة لا حياة فيها، «وهو وحظه» إنْ كتبت له الحياة وأنقذته العناية الإلهية.
هذه الطبقة «استهونت» سلوك طريق الفساد والمحاصصة والجشع، وأخذتها نشوة «الانتصار» على شعبها المقيم، وتخريب البلد، دولة وسلطة ومؤسسات وسلطات وقطاعات تعليمية وصحية وخدمية وقضائية، وانقسامات طائفية ومذهبية ومناطقية، فتمدّدت باتجاه جناح لبنان المغترب، بذريعة «وجوب» مشاركة المغتربين ترشحاً مع وقف التنفيذ، واقتراعاً، وممارسة حقهم الديمقراطي والطبيعي لاختيار مرشحيهم إلى الندوة النيابية.
لم يرق لمعظم هذه الطبقة، أن ترى مؤسسة الاغتراب الكبرى المترامي وجودها على مساحة العالم، قوية ومتماسكة ومنتجة وتزخر بالطاقات والإمكانيات والحضور الاقتصادي والمالي الناجح الذي «ملأ الدنيا وشغل الناس»، ولا بالمغتربين الذين هم باعتراف الجميع ثروة الوطن الحقيقية، التي يتغنى فيها البعض بمناسبة ومن دون مناسبة، ويعترفون غصباً عنهم أو طوعاً أنها صمام أمان الوطن وأبنائه واقتصاده منذ عقود، وانها غطت عجز الدولة وفشلها وتخاذلها، ولطالما كانت الثروة الاغترابية، بديلاً عن المنظومة السياسية الباحثة دائماً عن مصالحها وحصصها وحماية مكاسبها وزيادة ثرواتها، من خلال دعمها المتواصل للوطن والشعب بكلّ الإمكانيات، وفي أصعب الظروف وأقساها وأخطرها، لا سيما في هذه المرحلة الكارثية التي تضغط بقوة على رقاب الناس وتكاد تخنقهم، وذلك بفضل تحويلات المغتربين المالية لعائلاتهم وللفقراء والمعدمين التي لم تتوقف يوماً، وهي المؤونة التي وفرت مقومات العيش الكريم وهدّأت النفوس، وحالت دون دخول الجوع إلى البيوت والعائلات المستورة التي حط بها الحال، وغدر بها حكام الأمس واليوم، من دون رحمة او شفقة.
مع اقتراب موعد الانتخابات النيابية، بدأت رموز من هذه المنظومة السياسية تتسلل إلى بعض دول الاغتراب اللبناني، ناقلة اليهم عن قصد أو من دونه، كلّ «وسخ» الداخل السياسي والطائفي والسلطوي، الذي لم ينتج سوى المزيد من الانهيارات والانزلاقات والانقسامات والاهتراء والصراع على المصالح والحصص، والتخويف من الشركاء في الوطن، ليس حفاظاً على المغتربين ولا المقيمين ولا الوطن، إنما لشدّ عصبهم واستنهاضهم واستنفارهم لما هو آتٍ من «أمّ المعارك» الانتخابية، التي عليها بالنسبة لبعض هذه المنظومة، يتوقف المصير وإثبات الذات الطائفية والمذهبية، ومن أجل جني المال و»الأصوات» لزوم صناديق الاقتراع لإنقاذ أنفسهم من السقوط، وليس لإنقاذ الوطن والدولة والشعب بعدما أسقطوهم بالضربة القاضية القاتلة.
مع اقتراب انتهاء موعد تسجيل أسماء المغتربين في السفارات والقنصليات اللبنانية في دول الاغتراب، في العشرين من الشهر الحالي، جنّدت القوى السياسية والطائفية والحزبية، ماكيناتها الانتخابية في الخارج، وأدارت محركاتها، ورفعت منسوب خطابها اللاوطني لتحفيز الأنصار والمؤيدين وما يعرف بالبيئات الحاضنة، للإسراع في تسجيل الأسماء، لأنّ المعركة محتدمة و»ع المنخار» أو «على حدّ السيف» الطائفي والحزبي.
الإحصاءات والتوقعات وما يتمّ تسريبه من السفارات والقنصليات اللبنانية، أنّ عدد اللبنانيين الذين تسجلوا لغاية اليوم لم يتجاوز الـ 150 ألف ناحب، وقد يصل عددهم التقريبي الى ما يقارب الـ 200 ألف ناخب، أكثر أو أقلّ، مع انتهاء مهلة تسجيل الأسماء. هذا يعني في لغة الأرقام، أنّ أعداد المغتربين اللبنانيين المسجلين لانتخابات ٢.٢٢، سيتضاعف مرتين ونصف المرة عن انتخابات ٢.١٨ حيث بلغ عدد المسجلين فيها ما يقارب ٨٣ ألفاً، انتخب منهم ٤٧ ألفاً، وعلى ضوء الانتخابات السابقة، ليس بالضرورة أنّ كلّ شخص سجل اسمه أنه سيقترع حكماً، وسيتوزع المقترعون على كلّ القوى السياسية والطائفية والحزبية، وإنْ بنسب متفاوتة ولكنها متقاربة، ولن تحدث فرقاً أو خرقاً أو قلباً لموازين القوى الانتخابية في لبنان المقيم، وبالتالي لن تعدل «الميلة» لأيّ فريق مهما حاول وراهن واستثمر في المغتربين ولن يؤتي ثماره لأحد، وكلّ ما سيجنيه شراء أصوات وذمم، وتعبئة طائفية وجمع أموال وتبرّعات لدعم الحملات الانتخابية والترويجية لوعوده الكاذبة وكلامه المعسول، من دون فعل او تغيير أو إصلاح أو محاسبة أو أمل بالزمن الآتي الذي لن يكون أفضل من الراهن، وقد يكون أسوأ وأقسى وأخطر، وفق المعطيات والمؤشرات السياسية والاقتصادية والمالية وتعطل السلطات وشلل المؤسسات، وتفرغ السلطة للتجاذبات والسجالات والصراعات والانتخابات، ومن بعدها الطوفان…