لكلّ زمان دولة ورجال…
سعادة مصطفى أرشيد*
أثارت زيارة عضو الكنيست منصور عباس إلى عمّان الاهتمام واللغط، وبدت كقضية إشكالية خلافية سواء لدى حكومة بينيت أو لدى المجموع الأردني الشعبي والبرلماني، (إسرائيلياً) تقدّم أربعون من أعضاء الكنيست بطلب استجواب لرئيس الحكومة، فيما صدرت تعليقات عدة منسوبة لسياسيين (إسرائيليين)، منها ما صدر عن وزير الاستخبارات السابق ايلي كوهين، في الاستجواب البرلماني الذي عبّر به هؤلاء عن مخاوفهم من أنّ منصور عباس بحث موضوع إقامة دولة فلسطينية في الضفة الغربية مع العاهل الأردني، فقد أكد رئيس الحكومة للنواب وطمأنهم، أنه لن تجرى أية مفاوضات سياسية مع الجانب الفلسطيني، فما يجرى من حوار وتفاوض يتناول سير العمل والتنسيق على ما هو متفق عليه، وأن “لا دولة إرهاب فلسطينية ستقوم على أرض (إسرائيل) والشعب اليهودي”، أما وزير الاستخبارات إيلي كوهين، فقد أكد أن منصور عباس، لم يزر عمّان بمبادرة فردية، وإنما حمل رسائل، وتحدث باسم رئيس الوزراء ووزير الخارجية، ولم يفت إيلي كوهين أن يضيف، أن لا إمكانية بالمطلق لقيام دولة فلسطينية ما بين ساحل البحر الأبيض المتوسط ونهر الأردن، حتى لو كانت منزوعة من كلّ سلطات ومظاهر الدولة، وأنّ هذه البقعة من الأرض لن يكون بها متسع إلا لدولة واحدة وهي الدولة اليهودية (إسرائيل)، مضيفاً أن في شرق النهر (الأردن) تتوفر الأرض والمساحة، كما أنه مسكون بأغلبية سكانية فلسطينية، وأن هناك هو المكان المناسب لقيام الدولة الفلسطينية، وفي حين التزمت الدولة الأردنية الصمت حيال تصريحات الوزير إيلي كوهين، إلا أن هذه التصريحات قد أثارت عاصفة من القلق والغضب الشعبي والبرلماني بسبب تجاهل الحكومة الرد عليه أولاً، ثم بسبب طبيعة التصريحات ثانياً.
في عمّان التقى منصور عباس مع الملك عبدالله الثاني خمس ساعات، وبحث الفريقان ـ كما ورد في البيان الصادر عن الديوان الملكي الأردني والذي لم يخرج عن مألوف البيانات النمطية المعدة سلفاً لهكذا مناسبات، عملية السلام غير الموجودة، وحلّ الدولتين الذي لم يعد مطروحاً، وأنّ الحلّ بإقامة دولة فلسطينية على حدود الرابع من حزيران 1967 وعاصمتها القدس الشرقية، علماً أن الاستيطان وواقع تقسيم الضفة الغربية إلا ثلاثة أنواع من المناطق لم يبق لهذا الكلام أي مضمون واقعي، وبالطبع تطرق البيان إلى المقدسات المقدسية والوصاية الهاشمية عليها… ولكن ما يثير الانتباه، أن منصور عباس ليس برئيس دولة، أو وزير خارجية دولة عظمى، أو مبعوث أممي علي المستوى أن كلّ ما ورد من كلام مكرّر لا يستحقّ مثل هذه الساعات الخمس الطويلة، فما الذي بحثه الجانبان؟
بداية، منصور عباس هو اليوم شخص استثنائي في السياسة (الإسرائيلية) الفلسطيني الذي يملك القدرة على إبقاء الحكومة أو إسقاطها، وهو حتى الآن يملك احتمالية عالية لزيادة حصته في مقاعد الكنيست في الانتخابات المقبلة، واحتمالات إجراء انتخابات مبكرة أمر راجح الاحتمال، يقوم منصور عباس بتقديم أداء برلماني مختلف عما جرى عليه أداء أعضاء الكنيست من فلسطينيّي الداخل منذ عام 1993 عند توقيع اتفاق أوسلو والشروع بتشكيل السلطة الفلسطينية ودخول قياداتها، ففي حين التزم أعضاء الكنيست في ما بعد ذلك التاريخ، بدعم السلطة الفلسطينية في رام الله، وإطلاق شعارات وطنية عامة، والتشاجر مع المتطرفين اليمينيين من أعضاء الكنيست أمام الإعلام، إلا أنّ الناخب في الداخل الفلسطيني، لم يعد يكتفي بذلك. أو يرى في ذلك تلبية لحاجاته وحلول لهمومه، فعمليات هدم البيوت وإزالة القرى مسألة بالغة الحيوية له وكذلك ما يعانيه من تفشي التمييز والعنصرية وذهاب المجتمع اليهودي نحو اليمين الأكثر تطرفاً، والبطالة، ثم الجريمة التي أصبحت سمة من سمات مناطق سكن الفلسطينيين بالداخل.
غابت المسالة الوطنية والإسلامية على حدّ سواء تماماً عن برنامج قائمة عباس منصور الموحدة، فلم يتطرق برنامجها الانتخابي للمسألة الفلسطينية من أيّ جانب كان، ولا للقدس وما تمرّ به من مصاعب تطال المسجد الأقصى والوجود الفلسطيني في المدينة ومحاولات إفراغها من أهلها وساكنيها الفلسطينيين، وهي سياسات رسمية درجت عليها الحكومات المتعاقبة ومنها الحكومة التي يشارك بها منصور عباس وقائمته، ثم سياسات غير رسمية للجمعيات التلمودية المتطرفة، التي تدعمها وتمنحها الحكومات الغطاء والحماية، ولم يتطرق البرنامج الانتخابي للاستيطان في الضفة الغربية وسياسات مصادرة الأرض وإفقار ساكنيها، فقد فصل هذا البرنامج فلسطيني الداخل تماماً عن المجموع الفلسطيني وجعل له قضاياه وهمومه الخاصة والمنفصلة تماماً، فقد مثلت المشاكل الحياتية اليومية، التي يعاني منها الفلسطيني أساس البرنامج الانتخابي لمنصور عباس وقائمته، واستجاب كثير من الناخبين لهذا البرنامج، فحقق إنجازاً في حصد عدد من المقاعد (4)، ثم دعم الحكومة، ومثل لحكومة بينيت، القشة التي ترجح كفة بقائها، ودرء محاولات نتنياهو المتربص بها لإسقاطها، فاستطاع تحقيق بعض من وعودة الانتخابية، كل ما تقدم يشير إلى أنّ هذا المنصور عباس سيكون له دور لفترة قد تطول، وكان ذلك يستدعي لقاء الساعات الخمس التي قضاها مع الملك عبدالله الثاني.
تتحمّل السياسات الفلسطينية الرسمية وبخاصة توقيع اتفاق أوسلو، المسؤولية الأولى عن انفكاك الشعب الفلسطيني عن مسألة الوطنية الجامعة، وذلك عندما أصبح الشعب الفلسطيني، هو أهل الضفة الغربية وقطاع غزة، ومعهم من كان بالخارج وعاد طائعاً أو مرغماً على القبول بتلك الاتفاقية ممن سمح له المحتلّ بالعودة، لا الفلسطينيين البالغ عددهم ثلاثة عشر مليوناً مشتتين بالمهاجر القسرية والمنتشرين في جهات الأرض الأربع، من هؤلاء ولا بدّ من هو أصلاً مستعدّ للانفكاك وقد وجد في اتفاق أوسلو ما يسوغ له انفكاكه، ومنهم من رأى في فلسطين الجديدة فرصة شخصية، ومنهم من له أجندته الخاصة ذات الارتباط الخارجي، وقد وجد جميعهم في هذا الاتفاق ما يبرّر لهم سوء فعالهم، ومنصور عباس هنا ليس استثناء، وإذا كان لكلّ زمان دولة ورجال، فبئس الزمان وبئس الدولة وبئس الرجال.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ