تغيّر المعادلات السياسية والعسكرية بعد الانسحاب الأميركي من أفغانستان
} جمال بن ماجد الكندي
الانسحاب الأميركي الأخير من أفغانستان كانت له تداعيات على الأرض، وتمّت قراءته في العقل السياسي والعسكري من عدة زوايا، فحلفاء أميركا في المنطقة كانت قراءتهم الجديدة تقول بأنّ أميركا القوية أصبحت تتلاشى في المنظور السياسي الأوروبي بالتحديد، فأميركا تلك القوة القوية عسكرياً بعد مخرجات الحرب العالمية الثانية أصبحت من التاريخ، ولا بدّ من وجود مراجعات لهذا الأمر، وأنا لا أقصد هنا الآلة العسكرية، فهي ما زالت متربعة على العالم بأسلحتها التقليدية والنووية، ولكن أقصد القدرة على خوض معارك ذات بعد استراتيجي يغيّر من واقع معيّن لواقع آخر.
أما خصوم أميركا فوجدوا من هذا الانسحاب مذلة لأميركا، خاصة أنّ من كانت تؤهّلهم أميركا ليكونوا ذراعها السياسي والعسكري في أفغانستان ذابوا في وقت قصير جداً، وظهر التفوق الطالباني ـ إنْ صحّ التعبير ـ السياسي والعسكري.
لذلك فهم يعتقدون أنّ انهزام أميركا في أفغانستان هو إشارة وعلامة قوية أنّ العالم يتجه إلى تعدّد الأقطاب، وتوازن القوى ليس بين أميركا وروسيا فقط، بل بينها وبين دول أخرى تعاديها أميركا.
ما تشهده المنطقة بعد هذا الانسحاب هو تغيّر واضح في المعادلات السياسية والعسكرية التي تعتبر أميركا وحلفاؤها أبرز أطرافها في المنطقة، فبعد فشل الاستراتيجية الأميركية في أفغانستان بإيجاد الفوضى فيها واستثمارها حسب الرؤية الأميركية عن طريق الحرب الأهلية بين الطوائف الأفغانية، أو عن طريق فزاعة «داعش»، وإلى الآن فإنّ المشروعين فشلا في أفغانستان وذلك بسبب الوعي الأفغاني لأبعادهما المدمّرة، ووقوف دول جوار أفغانستان مع الحكومة الجديدة في الحفاظ على الأمن القومي الأفغاني الذي إذا تأثر فإنه يمثل بيئة غير صحية تهدّد أمن هذه الدول. لذلك فأميركا تحاول تغيير المعادلات السياسية والعسكرية في المنطقة بعد خسارتها أفغانستان لكي تخفف من تداعيات هزيمتها في أفغانستان، وفي المقابل من لا يتوافقون مع رؤيتها يستغلون خسارتها لمقاومة هذا التغيّر وتثبيت واقعهم الجديد.
من هنا ندخل في لعبة تغيّر المعادلات السياسية والعسكرية في المنطقة من جهة أميركا وحلفائها، ومن جهة من يخلفونها، ففي العراق كان إضعاف منظومة «الحشد الشعبي» والقوى السياسية التي تقف معه هي الاستراتيجية الأميركية في هذا البلد، فهذه القوى بات معلوماً للجميع أنها كانت المساهم القوي في القضاء على مشروع «داعش» في العراق الذي كان يُراد له أن يكون الاستثمار الأميركي في بلاد الرافدين لمدة كانت تصل إلى 30 سنة حسب قول بعض القادة العسكريين الأميركان، وإضعاف هذه القوى بضرب قواعدها السياسية.
الانتخابات البرلمانية العراقية الأخيرة أظهرت نتائج غير مقبولة مع التيار السياسي الحاضن لقوى «الحشد الشعبي» مع الرضى الأميركي لنتائج هذه الانتخابات، وتهمة تزوير الانتخابات هي عنوان المشهد السياسي العراقي حالياً، والتظاهرات المستمرة في العراق بسبب نتائجها التي أظهرت بروز تيار سياسي معيّن مرضي عنه خليجياً وأميركياً لن تغيّر الواقع العراقي لصالح فئة على حساب فئة أخرى، فلو أقرّت هذه النتائج بشكلها الحالي فلن تكون جبهة قوية تخرج ما يسمّى بين قوسين «حلفاء إيران في العراق» لأنّ مخرجات النظام البرلماني العراقي لا تنتج أغلبية نيابية ذات لون واحد، وهنا تبدأ لعبة التحالفات البرلمانية ولعبة المحاصصة الحزبية الطائفية، وهذه هي أكبر مشاكل النظام البرلماني العراقي الذي صمّم من قبل الأميركي ليكون نظام المحصصة فيه أساسه البرلماني. العراق بحاجة إلى نظام وطني بديل لا تتدخل فيه دول جوارها، فالمعادلة العراقية متأرجحة بسبب ذلك، والمطلوب نظرة وطنية خالصة تضع مصلحة العراق فوق الطائفية والإملاءات الخارجية.
تغيّر المعادلة السياسية في لبنان تحاول فيه أميركا والقوى المتحالفة معها في إخراج «حزب الله من السلطة التنفيذية ومحاولة شيطنة الحزب عبر افتعال مشاكل أمنية وسياسية وقضائية ضدّه وجرّه إلى فوضى أمنية، وهذا الأمر فشلت فيه أميركا وحلفاؤها في لبنان إلى الآن، فكمين «الطيونة» وما نتج عنه من ضحايا في صفوف التظاهرة السلمية التي كان دعا إليها الثنائي حزب الله وحركة أمل، هذا الكمين الغادر لم يجرّ لبنان إلى الفوضى الأمنية التي كان مخططاً لها من قبل الحلف الأميركي في لبنان، وذلك نتيجة الوعي الكبير لدى قادة الثنائي والقدرة على وأد أيّ فتنة قد تسبّب عودة شبح الحرب الأهلية…
هذه المحاولات ليست بالجديدة، فالضغوط الأميركية في إخراج الحزب من العملية السياسية مستمرة، ولكنها تلاقي الفشل على الأرض، لأنّ حزب الله بفكره السياسية والعسكرية المعادية لـ «إسرائيل» هي التي تلقى جماهرية كبيرة ووسعة في لبنان، فقاعدتها الشعبية ليست ببسيطة والأميركي يعلم ذلك. فهذه المعادلة الجديدة التي تريد أميركا صنعها في لبنان بإزاحة حزب الله من الحياة السياسية هي معروفة النتائج، وحتى حلفاء أميركا في لبنان أو ما يسمّى «قوى الرابع عشر من آذار» يدركون ذلك ويعلمون صعوبة تحقيقه وهذا ما يقلق «إسرائيل».
فالمعادلة السياسية في لبنان ليست في الخانة الأميركية ومحاولة تغييرها تخلق أزمة أمنية وسياسية ستكون عواقبها على البلد وخيمة، والمطلوب توافق سياسي يخرج لبنان من أزمته الحالية بتقوية الحكومة الحالية وعدم الضغط عليها بإملاءات خارجية ترجع لبنان إلى المربع الأول، مربع حكومة تصريف أعمال عاجزة في صنع القرار السياسي والاقتصادي الذي ينقذ لبنان من الدوامة التي يعيش فيها.
أما تغيّر المعادلة في اليمن فهو بات من الماضي، فتقدم الجيش اليمني واللجان الشعبية في محافظة مأرب، يدخل المنطقة في معادلة سياسية جديدة طرفها الأساسي «أنصار الله» الذين يحسبون على محور المقاومة، وهذا الأمر يعني خروج اليمن من الوصاية الخليجية، والقبول بتموضع تيار سياسي عسكري يحارب على الأرض التحالف السعودي. هذه المعادلة حاولت «عاصفة الحزم» وبعدها «إعادة الأمل» تغييرها وفشلت، وفشلها بات واضحاً إزاء التقدّم المستمرّ لأنصار الله في الشمال اليمني، ومدينة مأرب آخر معاقل أنصار هادي فيها على وشك السقوط، والذي يتردّد اليوم بأنّ «ما بعد مأرب ليس كما قبله» سياسياً وعسكرياً واقتصادياً، وباعتراف الأميركيين أنفسهم.
تغيّر المعادلة السياسية والعسكرية في سورية أثبتت فشلها الذريع عبر عشرية النار التي أدخلت هذا البلد في دوامة الحرب ولم تستطع القوى التي تعادي الحكومة السورية مع حلفائها في المنطقة، والقوى العالمية وفي أوْج قوتها في تغيير الواقع العسكري والسياسي في سورية. واليوم أصبحت سورية مستقرةً في محورها السياسي المعروف التوجه، والدول العربية التي قاطعتها بأوامر أميركية ترسل الرسائل للعودة إلى سورية عبر منصة الجامعة العربية، والوجود الأميركي في قاعدة «التنف» عليه علامات استفهام كبيرة خاصةً بعد القضاء على مشروع «داعش» في سورية، وخيار المقاومة الشعبية ضدّ هذا الوجود مطروح بقوةً وضدّ المكون الذي زرعه الأميركان في الشمال السوري، فهو مرتبط بالوجود الأميركي وهذا الوجود لا بدّ أن يخرج من سورية، إذا تمّت مقارنته بالوجود المهمّ والحيوي لأميركا في الجغرافيا الأفغانية، ومن يحتمون بالمحتلّ الأميركي في قاعدة التنف وغيرها يدركون أنّ الأميركي «براغماتي» التوجه ومصالحه لا تتوقف عند حزب معيّن، والاتفاقات تعقد بين يوم وليلة، وسيجد من يحتمون به بأنهم مكشوفو الظهر. فالمعادلة السياسية في سورية ليست في الخانة الأميركية.
انهزام أميركا في أفغانستان وفشلها في تثبيت معادلتها السياسية في العراق واليمن ولبنان انكشف كذلك في الصراعات الخفية والمعلنة بينها وبين إيران، وحرب الممرات المائية أثبتت فيه إيران أنّ لها الاستطاعة والقوة في كسر الحصار المفروض على فنزويلا ولبنان قبل عدة أشهر، وهو يظهر القدرة الإيرانية في تغيير معادلة البحار، الذي كان التفوّق فيها للبحرية الأميركية، واليوم هي عاجزة عن إبداء أيّ ردّ فعل ضدّ إيران تتسبّب في جر المنطقة إلى حرب لا تريدها أميركا. لذلك نرى حرب الناقلات بين أميركا وحلفائها وبين إيران بات من المشاهد المتكرّرة التي ترسل فيها رسائل معيّنة يفهمها الجانبان وآخرها احتجاز إيران لناقلة النفط التي تحمل علم «دولة فيتنام» ومحاولة الأسطول الأميركي الخامس تحريرها وفشله في ذلك وتصوير البحرية الإيرانية للمشهد كاملاً مما أربك التصريحات الأميركية في بيان ملابسات الحادثة.
الفشل الأميركي في أفغانستان بعد احتلال دام عشرين سنة في إيجاد مكوّن سياسي وعسكري يعتمد عليه في الجغرافيا الأفغانية انسحب على باقي الملفات السياسية والعسكرية لها في المنطقة، ونظرية تسيّد القطب الواحد الأوحد باتت من الماضي، الذي يُعاد صياغته اليوم بمعطيات جديدة صاغتها الإرادة السياسية والشعبية للقوى المناهضة للهيمنة الأميركية عبر تحالفات إقليمية ودولية ترسم خارطة جديدة في المنطقة مبنية على أساس التشاركية والمنفعة المتبادلة بين الدول، والتي قاعدتها السيادة الوطنية التي كانت مغيبة في محور من يدورنا حول الفلك الأميركي.