أخيرة

شجرة فاديا والتوت الفلسطيني

  حمزة البشتاوي*

حكايات وأساطير كثيرة تحدثت عن شجرة التوت وألوانها التي تحوّلت من بيضاء ناصعة إلى شديدة الإحمرار كدماء العاشقين الذين يضحّون من أجل الحبّ والأرض، ويُحكى بأنّ للتوت الفلسطيني مذاق يشبه ماء وهواء الأرض وحكايات العشق ومنها حكاية شجرة فاديا التي حوّلتها المخرجة البريطانية سارة بدينغتون إلى فيلم وثائقي بطلته فاديا لوباني المهجرة عائلتها من قرية سعسع إلى لبنان عام 1948.

وتتحدّث فاديا في الفيلم عن شجرتها التي تعتقد بأنها ما زالت صامدة في الأرض والذاكرة كقطعة من القلب والروح، ونقلت المخرجة سارة بدينغتون حكاية شجرة فاديا بتحدي مع نفسها ومع فاديا بأنّ شجرتها ما زالت موجودة بالقرب من دار جدّها في قرية سعسع، وهذا ما ذهبت تبحث عنه المخرجة علها تنجح بالتحدي ولكنها وبعد رحلة طويلة سألت عنها كلّ من رأته من المستوطنين الجدد في قرية سعسع التي تحوّل إسمها إلى (ساسا) لم يعرفوا شيئاً عن الشجرة ومكانها وإذا ما كانت موجودة أصلاً، وعندها بدأت تكبر الشكوك والأسئلة في ذهن المخرجة مستبعدة أن تبقى شجرة التوت في مكانها بعد كلّ هذه السنين ووصلت للقول بأنّ الأمر غير منطقي، واتصلت بفاديا وقالت لها: شجرتك غير موجودة، سوى بالحلم والذكريات، ولكن فاديا أصرّت عليها أن تواصل البحث استناداً إلى رواية ووصف عمّها الذي كان عمره وقت النكبة 8 سنوات، وعلى الرغم من أنه أصبح ضريراً إستطاع أن يدلّ المخرجة إلى الشجرة وفعلاً وصلت إليها ورأتها كما وصفتها فاديا وعمّها وعادت لتقول: يا فاديا شجرتك موجودة والتوت ينتظرك.

والانتظار لا يسير في طريق مسدود بل نراه محلقاً من مكان إلى مكان في الفيلم الذي يسلط الضوء على هوية الأرض ورسائل الحنين التي ما زالت تطير يومياً من مخيمات اللجوء وتحط في أرض الآباء والأجداد كأبجدية حب لا يعرف اليباس وفيها يرسم الحالمون من نافذة الغياب المؤقت أشجاراً يتفرّع منها أغصان وحكايا تدلّ العشاق على الطريق، وتظهر شجرة فاديا في الفيلم والواقع كدليل على استمرار الحياة والبقاء والارتباط بالأرض حيث كلّ ما في شجرة فاديا من جذور الماضي وجذوع الحاضر وثمار المستقبل يؤكد على صحة الرواية بمواجهة ما فعلته الحركة الصهيونية من عمليات تهويد وتغيير للمعالم والتضاريس وتزييف لحقائق الجغرافيا والتاريخ إضافة لنشر الأوهام التي سرعان ما تسقط أمام حقيقة شجرة فاديا التي تؤكد ببالغ الحب والحنين على الهوية والذاكرة الجمعية ونكهة الأمل وطعم الدروب الحامضة للتوت الفلسطيني الذي يغذي عدالة الفكرة وصلابة الإنتماء، كما أنه يواسي اللاجئين الذين ما زالوا يتذكرون ويذكرون في أحاديثهم شجرة التوت التي كانت تجاور منازلهم وحواكيرهم، وكيف كانوا ينعمون بظلها ويأكلون من ثمارها،

وقد ارتبط التوت الفلسطيني لدى النساء الفلسطينيات بذكرى القبلة الأولى وشال الحرير ومخدة الأحلام الوردية ولاحقاً بتداعيات النكبة والتهجير التي ستمحى يوماً كما تقول فاديا: أنا على يقين بأنني سأعود إلى شجرتي وآكل منها وأصنع شراباً ومربى، أنا متفائلة حتى بأصغر التفاصيل، وهنا في المخيم ذهبت إبنتي لتحضر مرطبان دبس رمان ولكنها بالخطأ أحضرت مرطبان توت وعندها قالت لي إبنتي بأنني محظوظة وقد لا أكون كذلك ولكنني متفائلة بالعودة إلى شجرتي…

وإلى أن يأتي موعد اللقاء سأبقى أحرس حكايتي وأخبر أولادي ومن ثم أحفادي عن التوت الفلسطيني وطعمه الخاص في شجرتي التي تكبر يومياً في أرضي وفي قلبي وفي المسافة الممتدة من هنا إلى هناك، وسيبقى المستوطنون بقربها يراقبون شيئاً لا يعرفونه كالحنين والذكريات.

*كاتب وإعلامي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى