الوقائع الغامضة لتضرّر غواصة نووية أميركية في بحر الصين
} د. منذر سليمان وجعفر الجعفري
تعرّضت غواصة نووية أميركية لأضرار نتيجة ارتطامها «بجبل في عمق المياه البحرية»، في 2 تشرين الأول/ اكتوبر الماضي، وسط مخاوف من تسرّب محتمل للوقود النووي على متنها. ولم يعلن سلاح البحرية عنها إلا بعد 5 أيام من الحادث، بعد اجتيازها مياه بحر الصين الجنوبي، بحسب شبكة «سي بي أس»، 5 تشرين الثاني/ نوفمبر الحالي.
وكانت الغواصة «يو أس أس كونيتيكت» الحديثة، من فصيلة «سي وولف»، وقد بلغت كلفتها 3،000 مليون دولار، تبحر في أعماق بحر الصين الجنوبي، الذي تعتبره بكين منطقة سيادية وأقامت فيه جزراً اصطناعية لتعزيز سيادتها.
تحفّظ سلاح البحرية الأميركية على حجم الضرر وطبيعته، لكن بعض الأوساط رجّحت إصابتها «بأضرار لحقت بالقسم الأمامي للغواصة، وحجرات الموازنة بالسوائل، وإصابة 15 بحاراً بعوارض الاصطدام»، ما اضطرّ طاقمها لتعويمها على سطح الماء وقيادتها لإجراء الصيانة والترميم نحو القاعدة الضخمة في جزيرة غوام، التي تبعد عنها نحو 3،000 كلم.
توجهت الغواصة بعد إصلاح الضرر إلى قاعدتها الأمّ في مدينة بريمرتون بولاية واشنطن لإتمام إجراءات الصيانة. لكن جوهر التحدي أمام سلاح البحرية يكمن في «عقيدته التي لا تشجع على بلورة خطط استرداد الموارد، وتدهور التسلسل القيادي».
أما بالنسبة إلى مصير الغواصة النووية «فإنها ستحال إلى خارج الخدمة لعدة سنوات»، وهي واحدة من ثلاث قطع حديثة تعمل بالطاقة النووية (مجلة «فوربز»، 3 تشرين الثاني/ نوفمبر 2021).
وكان الأب الروحي للسلاح النووي في البحرية الأميركية، هايمان ريكوفر، انتقد بقسوة التراتبية العسكرية في خطاب تقاعده من الخدمة في العام 1982، قائلاً: «العلّة الأساسية في نظام دولتنا، كما في القطاع الصناعي، هي قاعدة الاتكالية (بين القادة) لإنجاز أقلّ من المستوى المطلوب. كما أنّ المسؤولين جاهزون للقبول والتأقلم مع أوضاع يدركون أنها خاطئة، ويميلون إلى التقليل من حقيقة المعضلات بدلاً من العمل على تصحيحها بفعالية».
سارع قائد الأسطول الأميركي السابع، كارل توماس، إلى إعفاء قائد الغواصة «الحديثة جداً»، كاميرون الجيلاني، وإثنين آخرين من قادتها، باتريك كاشين القائد الثاني في الغواصة وكوري رودجرز تقني أجهزة الاستشعار الصوتية، واتهمهم بالاسترخاء، مشيراً إلى أنه «كان بإمكان طاقم الغواصة تفادي التصادم لو تمّ اتخاذ قرار حكيم». بيد أنّ المتحدثة الرسمية باسم الأسطول السابع الأميركي، هايلي سميث، أشارت إلى أن «الجبل البحري (مرتفع صخري قاعدته في قاع المحيط) لم يكن محدّداً من قبل» في الخرائط الطبوغرافية المعتمدة.
وأوضح الاستاذ الجامعي في عِلم المحيطات، ديفيد ساندويل، أنّ جهود رسم الخرائط الطبوغرافية الأميركية لبحر الصين الجنوبي استكملت «أقلّ من 50%» من تلك المساحة، مؤكداً عدم مفاجأته من حادث الارتطام، وهو استطاع تحديد «27 موقعاً محتملاً لسير الغواصة، والتي لا تظهر على خرائط سلاح البحرية»، الأمر الذي يتعارض مع توجهات عدوانية للاستراتيجية الأميركية لتطويق الصين بالغواصات والسفن الحربية (موقع شبكة «سي أن أن»، 4 تشرين الثاني/ نوفمبر 2021).
استناداً إلى بيانات سلاح البحرية، يستطيع المرء التوصل إلى استنتاج مفاده أنّ قائد الغواصة، وهو متخرّج عِلم الفيزياء، اعتمد على طاقم معاون ربما أدنى من الكفاءة المتوقّعة، علاوة على ما ورد في بيان حول أهمية «التخطيط للإبحار»، ما يوحي بأنّ الحادث كان يمكن تلافيه على الرغم من خط السير في مياه لم يتم اعداد خرائط خاصة بها.
يُجمع الخبراء العسكريون، بمن فيهم متقاعدون في سلاح البحرية، على الأزمة البنيوية في تأهيل الطواقم المتقدمة وتراخي الضوابط الناظمة في العقود الماضية إبان الحرب الباردة، ما أسفر عن اضطلاع قباطنة السفن بالإشراف على برامج تدريب المراتب الأدنى خلال الخدمة الفعلية، وما نتج عنه من تراجع في أعداد الضباط المؤهلين.
على سبيل المثال، كان برنامج تدريب ضباط سلاح البحرية يستغرق 6 أشهر خلال فترة الحرب الباردة، وتمّ تقليص الفترة إلى النصف في الأزمنة الحالية، وإلغاء بعض المواد الدراسية في أصول الملاحة وإدارة السفن والتقليل من حدوث الكوارث. أما المنتسبون إلى كلية ضباط الحرب السطحية، فيتلقون تدريبات إضافية مدتها 60 يوماً، ما يعادل مجموعها 7 أشهر أقل ممّا كان مطلوباً تلقّيه لضباط الصف إبان الحرب الباردة.
وفي انتكاسة موازية لسلاح البحرية، أُعلن في ولاية واشنطن، 10 من الشهر الحالي، عن محاكمة «عالمة معادن سابقة تعمل لشركة أميركية كانت تزوّد المصانع بالفولاذ المقوّى لبناء السفن»، واتّهِمت بتزوير نتائج اختبارات متانة المعدن المقوّى، لمدة 30 عاماً، والذي أضحى غير مطابق للمواصفات والمعايير التي حدّدها سلاح البحرية، إذ يفترض أن يتمتع بخاصية مقاومة بدرجة كبيرة في أعماق المحيطات.
وكشف سلاح البحرية الأميركية عن اتخاذه إجراءات لمراقبة غواصاته بصورة عاجلة، بعد الكشف عن «أكثر من 240» من الاختبارات المزوّرة لمتانة الفولاذ، في درجات حرارة متدنية «73 درجة مئوية تحت الصفر»، كما جاء في مواصفات البحرية المطلوبة.
اللافت في المسألة أعلاه نفاذ المراتب العسكرية كافة من المساءلة، بينما أعلنت وزارة العدل الأميركية أنه كان ينبغي على سلاح البحرية «اتخاذ إجراءات مهمة لضمان سلامة الغواصات المتضرّرة» التي ما زال نحو 40 منها في الخدمة، وربما رأى سلاح البحرية ان من الأفضل له عدم المجازفة عبر الهبوط بهياكل الغواصات العاملة إلى مديات قصوى. كبار القادة العسكريين، وخصوصاً في سلاح البحرية، يحبّذون عدم تحمل المسؤولية، واستمرار التمتع بالامتيازات الممنوحة لتلك الرتب، بحسب قادة متقاعدين.
بالعودة إلى تقييم «هايمان ريكوفر» بشأن عقلية الاتكالية وتراجع تحمّل المسؤولية في صفوف الهيكلية العسكرية، يتضح للمرء انقضاء نحو 30 عاماً على تزوير بيانات صلابة الفولاذ من دون الكشف عنها في المراجعة المفترضة عند مرحلة التسلّم والتدقيق مرة أخرى «عبر أداة مستقلة وحيادية»، كما طالب ريكوفر.
أمام حقيقة تسلّم سلاح البحرية الأميركية «240 دفعة» من الفولاذ المتدني الجودة، وإدخالها في بناء نحو نصف أسطول الغواصات النووية في ترسانته، سيتعيّن عليه إخضاعها بشكل كامل لإجراءات صيانة إضافية، لترميم ما تستطيع إصلاحه من عيوب، وما سيرافقه من نقص جوهري في موارد الانتشار والمهام العسكرية، سواء «في أزمنة التوتر أو الحرب»، وتبخّر خاصية التفوّق على الخصم التي تعتبر حجر الأساس في السياسات الأميركية المتعددة.
ما يفاقم الأمر بالنسبة إلى الاستراتيجية والترسانة الأميركيّتين أيضاً تتالي الدراسات الأميركية المختصة بالشؤون العسكرية في التحذير من تراجع التقنية الأميركية، والتي «لا تستطيع مواكبة قدرة الصين الصناعية» في أحواض بناء السفن، واللحاق بموازاة الترسانة الصينية التي تعدّ لإنتاج ما مجموعه 460 قطعة بحرية، في العقد المقبل، بينما «تطمح» الترسانة الحربية الأميركية إلى إنتاج 335 سفينة وغواصة، بموازاة عدد القطع الصينية في الزمن الحالي، في غضون عقد من الزمن.