الاستقلال: تاريخ محكيٌّ بلهجة المقاومة
إذا صحّ اعتبار الاستقلال منتَجًا تاريخيًا، فلا بدّ من وقفة في محضر من صنعوه، في محضر الأسماء التي احترفت مزج مقادير الكرامة والحريّة والإباء لتصنع منها صفعة على وجه الاستعمار. وما الاستقلال الذي نعرفه سوى صفعة أدمت وجه المحتلّ سواء سمّى نفسه انتدابًا ونصّب أدواته رموزًا في الواجهة الوطنية، أو عرّف عن نفسه كاحتلال صريح، وسمّى عملاءه «جيش لبنان الجنوبي”. في منطق المقاومين، الاستقلال خاتمة مسار لوّنه الدم ورصّعه، ونهاية مطاف من قتال بسلاح الحق المصان.
وإذا كانت القاعدة تقول بأن لا استقلال بغير قرابين الفداء وبغير أرواح تقاتل، فحكاية استقلال لبنان تتعدّى تلك المنتشرة في كتب التاريخ؛ فخارجها، تاريخ محكيّ صادق، تنطق به نسمات وادي الحجير، تحدّث عن أسمائهم كلّ الصخور هناك، فلا حاجة لهم أن تُحفر كنياتهم على لوحات «رسمية”: السيد عبد الحسين شرف الدين وأدهم خنجر وصادق حمزة وغيرهم ممّن شكّلوا حلقة المواجهة مع المستعمِر الفرنسي. هل ورد ذكر مؤتمر وادي الحجير في حكايات الاستقلال؟ هل تجرّأ الفرنسي على الإقرار بأثر هذه المقاومة الشعبية التي دعا إليها المؤتمرون من أبناء جبل عامل في نيسان 1920؟
حسنًا، يحدّث التاريخ عن سيّد يُدعى السيد عبد الحسين شرف الدين، سيّد من طينة الأحرار الذين يأبون الذلّ ويرفضون الاستسلام للمحتلّ مهما بلغت قوّته، دعا وجهاء وثوّار جبل عامل إلى اجتماع بعيد عن أعين الاحتلال، يراد منه تنظيم القتال ضدّ الاستعمار وتنسيق الجهود الثورية وتحويلها إلى عمل مقاوم ضد الاحتلال الفرنسي وكلّ المجموعات التي تناصره. حضر المؤتمر ثوّار ممّن تمرسوا في تحويل كلّ طاقاتهم إلى أعمال تمنع الفرنسي من الاستقرار ومن الشعور بأمان له على هذه الأرض. حضر أدهم خنجر، الذي تشهد له ولرجاله قلعة الشقيف التي تحصّن بها واتخذها مركزًا لعمليات مجموعته الثورية. قامت هذه المجموعات بالعديد من العمليات العسكرية ضدّ جنود الاستعمار ومنها القضاء على وحدة مشاة فرنسيين بالقرب من جسر الخردلي، ومنها أيضًا محاولة اغتيال «المندوب السامي” الجنرال غورو في القنيطرة، والتي نجا منها وتحوّل بعدها البطل خنجر إلى أبرز المطلوبين لسلطات الاحتلال، ما جعله يلجأ إلى دار صديقه الثائر في السويداء سلطان باشا الأطرش. وبوشاية من أحد العملاء، تمكن الفرنسيون من اعتقال أدهم خنجر أثناء غياب سلطان باشا عن الدار، واقتادوه إلى بيروت تمهيدًا لإعدامه الذي نُفّذ في 30- أيار – 1923، رميًا بالرصاص.
وكذلك حضر صادق حمزة، المقاوم الذي تمرّس بتأديب العثمانيين إلى الحدّ الذي جعلهم يتجنبون المرور من المناطق التي يتولى حمايتها في جبل عامل. وكان الفرنسيون قد حاولوا استمالته إلّا أنّه أبى، فالحرّ لا يرتضي الخضوع إذا ما تغيّر اسم المحتل وهويّته. قام صادق حمزة مع مجموعاته بعمليات عديدة ضد الاحتلال الفرنسي واستشهد عام 1926 في إحدى المواجهات ليرتقي بعد عمر حافلٍ بالحرية التي لا يُساوم عليها ومليء بنصرة الفقراء والمستضعفين، ومكرّس للمقاومة والحقّ.
حضر في مؤتمر الحجير ثوّار عاملة كلّهم، من عُرفت أسماؤهم ومن بقوا في الأرض مجهولين. حضرت المجموعات التي لم تنتظر أن تحظى بتنظيم كي تقاوم، فقاتلت كلّ منها بالأدوات المتاحة لها، كي لا يقال في أيّ زمان إن عامل وأهله خضعوا.
في يوم الاستقلال المحدّد على رزنامة الأعياد الرسمية، نعود إلى دفء الأزمنة التي صنعها رجال ثوريون صنعوا الاستقلال جيلًا بعد جيل، فالاستقلال لا يتجزّأ، ولا يمكن تجاوز أي حلقة من حلقات صناعته والتي ليس آخرها تحرير جنوب لبنان العام 2000. وكذلك رجاله، هم في العمق روح تتوالد في ضوء الحق المنتصر، روح تسطع كروح الرضوان التي تحضر في قلب القلب كلّما جرى حديث عن الحريّة وعن الاستقلال وعن الوطن.