السماسرة ينهبون ويجرفون كلّ شيء!
د. محمد سيد أحمد
ليست المرة الأولى التي نتحدث فيها عن أزمة الثقافة العربية، والتي هي أزمة مفاهيم بالأساس، فكثير من المثقفين العرب والمصريين يخلطون بين المفاهيم، ويستخدمون المفاهيم والمصطلحات في غير موضعها الصحيح، وبذلك تنتقل وتنتشر المفاهيم المغلوطة لدى عامة الناس، ولعلّ أكثر المفاهيم المغلوطة التي شاع استخدامها خلال العقود الخمس الأخيرة في المجتمع المصري هو مفهوم ومصطلح رجال الأعمال، لدرجة جعلتني أتشكك في كلّ من يطلق على نفسه وصف رجل أعمال.
فقد ارتبط المفهوم في ذهني برجال الفساد الذين نهبوا وسرقوا وجرفوا الاقتصاد الوطني منذ أعلن الرئيس السادات عن سياسة الانفتاح الاقتصادي في عام 1974، حيث اختفى رجل الأعمال بمفهومه الحقيقي الذي يسعى إلى إنشاء مشروعات منتجة تساهم بشكل حقيقي في بناء الاقتصاد الوطني، وبدأنا نسمع مصطلح القطط السمان، والتي تحوّلت مع الوقت إلى أفيال متوحشة استبدلت المشروعات المنتجة بمشروعات استهلاكية ترَفية، ثم انتقلت لمرحلة جديدة في عصر مبارك حيث سرقت ونهبت وخربت الاقتصاد الوطني، ولم تكتف بذلك بل انتقلت لمرحلة جديدة وهي القضاء على ممتلكات الشعب المصري المتمثلة في المشروعات المنتجة التي قام الشعب ببنائها من عرقه ودمه خلال الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، وما زالوا حتى اللحظة الراهنة مستمرين في عملهم التخريبي، الذي انتقل من الاقتصاد إلى الثقافة والفن والغناء فأفسدوا الذوق العام، وقد ساعدهم على ذلك تزاوج رأس المال والسلطة الذي سهّل لهم أن يسرقوا وينهبوا تحت مظلة ترسانة من القوانين التي وضعوها لأنفسهم.
وإذا كنا قد طالبنا مراراً وتكراراً منذ تولي الرئيس السيسي حكم مصر بضرورة مواجهة رموز الفساد من سماسرة نظام مبارك الذين يطلق عليهم زوراً وبهتاناً رجال أعمال، لأنهم يعرقلون كلّ محاولات النهوض والبناء بسيطرتهم على مقدرات الاقتصاد الوطني، والإعلام الذي يوجه الرأي العام ويشكله على هواهم في إطار مجتمع ترتفع فيه نسبة الأمية الأبجدية لتصل إلى 40 في المئة، وبالطبع تتجاوز الأمية الثقافية 90 في المئة، فإننا يجب أن نقدّم له أدلة الإدانة لهؤلاء السارقين الناهبين لثروات هذا الشعب الذي يعاني من الفقر على رغم كثرة خيرات بلاده.
تحت غطاء الاستثمار تمّت سرقة ثروات مصر وبيعت أصولها من أراض وشركات ومصانع، حيث تمّ البيع من الدولة لمستثمرين ورجال أعمال مصريين ـ كما يطلق عليهم ـ بملايين الجنيهات فقط، وبالتقسيط المريح وبأموال البنوك التي هي في الأصل أموال الشعب عبر قروض وهمية، ثم قام هؤلاء بإعادة البيع مرة أخرى لنفس الأصول المشتراة لبعض المستثمرين الأجانب بمليارات الجنيهات وأخذوا الفروق بين الملايين والمليارات لتدخل في حساباتهم الخاصة ويتحوّل هؤلاء السماسرة إلى كيانات مالية كبرى في الوقت الذي يتعثر فيه الاقتصاد الوطني ويرتفع العجز في الموازنة العامة للدولة.
وبالطبع كلّ عمليات البيع تمّت بالمخالفة للقانون والدستور، أو بالتحايل عليهما بواسطة ترزية القوانين في عصر مبارك، وحتى لا نتهم بأننا نقول كلاماً مرسلاً من دون أدلة فسوف أذكر بعض الأمثلة للتدليل على صحة ما أقول، تمّ بيع مصنع إسمنت السويس إلى عائلة ساويرس بمبلغ 95 مليون جنيه، وبعد عدة سنوات قامت عائلة ساويرس بالبيع لشركة لافارج الفرنسية بمبلغ يفوق الـ 20 مليار جنيه.
وشركة موبينيل للاتصالات التي أسّستها الدولة وأنشأت شبكتها وجهزتها تمّ بيعها لنجيب ساويرس بمبلغ 1.7 مليار جنيه، سوق ضخمة وشركة وحيدة مكنته من جني مليارات قام بعائدها بشراء شركات بالخارج من أموال المصريين في الجزائر وباكستان ولبنان والعراق وحتى في الكيان الصهيوني وأصبح دولياً، ثم طرح أسهم الشركة بالبورصة وجنى مليارات جديدة، ثم باع حصته لشركة فرانس تليكوم بمليارات. فقد منحته الدولة بهذه الصفقة المشبوهة الدجاجة التي تبيض ذهباً بمليم ولم تستطع الدولة أن تحتفظ بدجاجتها ولا أن تضمّ هذه المليارات لخزينتها الخاوية.
وحصل نصيف ساويرس على مليون متر في شرق التفريعة بنى على 150 ألف متر مشروع، وباع المتبقي لمستثمر خليجي بعشرات أضعاف الثمن الأصلي، والجونة وما أدراك ما الجونة، دولة داخل الدولة، مهبط طائرات ومارينا يخوت وقصور فارهة وشواطئ عراة وقصص ألف ليلة وليلة، ولا ندري كيف اشتروا الجونة وكيف يبيعون، ناهيك عن أبراج النايل بلازا، وشركة أوراسكوم، وأرض الشباب بأكتوبر، وما خفي كان أعظم.
وهذا نموذج واحد فقط لأسرة مصرية عملت بالسمسرة في الاقتصاد الوطني فخربت جزءاً منه، وهناك الكثير من أمثالها لا يتسع المجال هنا لذكرها، فقد أصبحت عائلة ساويرس واحدة من أغنى 10 عائلات في العالم بحسب مجلة «فوربس» في تقريرها السنوي. والعجيب حقاً أنّ هذا السمسار الأكبر نجيب ساويرس الذي نهب أموال وقوت الشعب المصري يرفض بل ويتحدى الدولة التي تحاول بناء الاقتصاد الوطني الذي خرّبه، ولم يكتف بذلك بل يخرج علينا كل يوم وبمنتهى البجاحة ليهاجم كلّ من يحاول الحفاظ على ثوابت الدولة المصرية وعلى الذوق العام ومعركته الأخيرة مع نقيب المهن الموسيقية الفنان هاني شاكر خير شاهد وخير دليل.
ويجب أن يعلم الجميع أنه كلما زاد الدين الداخلي نمت ثروات السماسرة، لذلك نناشد الرئيس السيسي بتشكيل لجنة اقتصادية لحصر وفحص ما تمّ بيعه من الأراضي والشركات والمصانع للسماسرة المصريين، الذين قاموا ببيعها للأجانب، واسترداد هذه الثروات المنهوبة وتقديم السماسرة فوراً لمحاكمة شعبية بعيداً عن القوانين والتشريعات التي وضعوها أثناء حكم مبارك لحماية ثرواتهم المشبوهة (ولا ننسى أنّ السمسار أحمد عز كان رئيس لجنة الخطة والموازنة في مجلس شعب 2005 ـ 2010)، فالشعب المصري لن يرضى بغير رقاب السماسرة الفاسدين الناهبين، وإذا كانت ثورتهم المضادة مستمرة، فثورة الشعب المصري الفقير هي الأكثر تحدياً وصموداً واستمراراً، اللهم بلغت اللهم فاشهد.