روسيا بين مسارات الاشتباك ومعادلات التشبيك…!
} فاديا مطر
لم يعد التصادم الأميركي مع الروس مجرد تفاعل مع التحديات التي تعتبرها واشنطن مقلباً آخر لبسط السيطرة بدلاً من وسط آسيا التي خرجت منها واشنطن بخسائر شنيعة، بل هي سياسة متداخلة مع الحليف الأوروبي في استرداد ما يمكن استرداده من سيطرة تعوّض قيمة الخسائر التي أثقلت كاهل الإدارة الأميركية ولو بسيطرة الوكيل لا الأصيل، فالاحترار الذي تشتدّ سخونته في البحر الأسود وأوكرانيا لم يكن ليحصل بعد اتفاق مينسك لو أنّ واشنطن استطاعت تحصيل أيّ ثمار من انسحاب أفغانستان وزجّها في معادلة القوة الدولية بما يخدم مصلحتها في ما سمته «مكافحة الإرهاب»، لكن ليس لأنّ ما فعلته واشنطن كان من وجهة نظرها في مصلحتها العظمى، بل لأنّ انسحابها كان قسرياً لجهة تعاظم الخسارة وفقدان للهيبة والسياسة أمام الداخل والخارج الضاغط، حيث سيطر ضغط الرأي العام الداخلي على الإدارة الأميركية واعتبر ما حصل يخالف مبادئ الدولة العميقة في الولايات المتحدة الأميركية.
بذلك يكون لفت الانتباه عبر إشعال توترات لا ترقى إلى مستوى حرب خارجية بعد إعلان إدارة بايدن بأن ليس هناك ضرورة لحروب طويلة الأمد، هي وصفة مؤقتة لتهدئة الضغط الداخلي المتعاظم بشقيه السياسي والاجتماعي، لكن أيّ اشتباك سيكون من شأنه زجّ الجيش الأميركي في أتون نار تمتدّ خارج جغرافيا ما يمكن حسابه أو محاصرته، وخصوصاً إذا ما تطوّر ما صرّحت به موسكو بأن الاستفزازات الأميركية تهدف لإشعال حرب في دونباس وسيكون الردّ قاسياً، وربما يكون بما لا تستطيع واشنطن وحتى أوكرانيا تحمّله إذا ما حصل في حدود ما استقدمته واشنطن من قطع عسكرية ومعدات للناتو إلى أوكرانيا وما تراقبه موسكو عن كثب أكبر بكثير لجهة تصاعد أيّ صراع محتمل، فهوما تعتبره موسكو عبثاً بالأمن القومي الروسي الذي يستحق الرد خصوصاً أنّ موسكو حذرت واشنطن من تفتت معاهدة انتشار الصواريخ المتوسطة المدى ومحاولة نشرها في أوروبا الوسطى ومن التدريبات العسكرية المشتركة مع الناتو في البحر الأسود والتي عتبرتها موسكو تدريبات على توجيه ضربات نووية تحصل للمرة الأولى في القرن الحالي وتستهدف روسيا، حيث باتت موسكو تعدً جدياً لما يمكن أن يتطوّر إلى حرب في محيطها القريب بعد معادلة التشبيك الاستراتيجي مع كلّ من إيران والصين في ساحة متقاربة السخونة مع اختلاف الجغرافيا…
فبحر الصين الجنوبي ومضيق تايوان والخليج العربي ليسوا بأقلّ حرارة من ساحة أوكرانيا ومحيط بلاروسيا وحدائق روسيا الخلفية، وهو ما ينتظر شرارة واحدة لإشعال ما لا يمكن إطفاؤه بسهولة بحسب مصادر إعلامية أميركية، خاصة على وقع ضعف أوروبي واضح بعد «بريكست» ومآلات أزمة المهاجرين على حدود أوروبا الشرقية والتي هي أيضاً قابلة للتفاقم الدراماتيكي في ظلّ عجز أوروبي لدرء مخاطر ما يمكن أن يحدث إذا ما حصل إتفاق نووي «غير معدل» مع إيران بصيغة العام 2015 بما لا يرضي حلفاء واشنطن من الكيان الصهيوني وصولاً للخليج ومروراً بأوروبا، وعندئذ سيكون على واشنطن التصدي لجملة كبيرة من محاور شق عصا الطاعة التي يمكن أن تسبّب ضعفاً يتكاثر في ما وراء الاتفاق النووي مع طهران، فبأيّ خط رجعة ترى واشنطن أوراقها قادرة على حلّ معضلة أوكرانيا؟ وهل تطور الأحداث سيبقي ذلك الخط مفتوحا˝؟
فالولايات المتحدة الأميركية ترى في إعلامها ما يمكن أن تقنع به العالم من أن تدخلها في تشابكات موسكو هو نزاع بصيغة اقتصادية وسياسية لا تشوبه رائحة العسكرة بعد خوض الحروب بالوكالة في سورية واليمن والعراق، وما حصدته من انكسارات برغم ملء فراغات التعسكر بالمجموعات الإرهابية التي اعتمدت عليها واشنطن من مجموعة الأخونة وتنظيم داعش وغيرها من مشتقات القاعدة التي لم تنجز سوى العجز عن نزع ميدان محدود القيمة لا تلبث أن تخسره لاحقاً، لا بل يرتدّ تأثيره على صورة الداعمين في كيفية ضبطه بعد انفلاته، وهو الأسلوب ذاته الذي اعتمدته تركيا في أغلب حروبها الخارجية التي ترزح تحت تداعياتها حتى في طياتها الداخلية وتعاضد المعارضة في وجه تلك السياسة برغم الانفتاح الخليجي الأخير على أنقرة من بوابة الاقتصاد.
إلا أنّ تلك السياسة لن تنفع مع محيط موسكو وبكين وطهران في خلق بيئة تحارب فيها المجموعات الإرهابية بيد واشنطن بتجربة تشبه حرب القوقاز، أو حروب تنجرّ إليها موسكو على شكل حرب أذربيجان وليبيا، فالحاصلة لن تكون مشاغلات ضغط عسكري تلغي نوايا واشنطن العسكرية فيما تسوقه من معبر اقتصادي في تسويغ استفزازاتها لروسيا والصين، وهنا لن ينفع الدخول من بوابة «الديموقراطية» لرأب ما يمكن أن يتجه له الميدان بما يخدم مصالح واشنطن وحتى أوروبا لا في شكل الاقتصاد والسياسة ولا حتى العسكرة.
فكيف إذا ما فشلت واشنطن في كبح الردّ الروسي أو الصيني وانجرّت إلى تصعيد في شرق أوروبا أو بحر الصين الجنوبي؟ فهل ستبقى تل أبيب في موقع المتفرّج على ما تعتبره تراخياً أميركياً في صدّ ما تسمّيه «نفوذ حلفاء روسيا»؟ أو إشعال جبهة الشمال مع لبنان لردّ محرج لواشنطن او محاولة جرّها إلى حرب إقليمية إضافية بساحة قتال أكبر؟ ربما تكون تلك من خيارات الصهاينة في حال فشل الولايات المتحدة في صياغة اتفاق جديد مع طهران وبقاء التوتر قائم في شكله الحالي مع تهدئة محتملة لجبهة تايوان وأوكرانيا ترخي بظلالها على مشهد تشعله تل أبيب في مدخل آخر لم يكن في حسبان واشنطن ولا أوروبا لكشف الأقرب على وقع مسارات الاشتباك المعدة مسبقاً وتعديل معادلات التشبيك الجديدة بصيغة «أنا أولا أحد».