الحلول ليست مالية ريعية بل اقتصادية وتنموية…
} أحمد بهجة*
قلائل جداً هم الذين لا يُحمِّلون حاكم مصرف لبنان رياض سلامة مسؤولية ما وصل إليه الوضع الاقتصادي والاجتماعي والمالي في البلد. هؤلاء القلائل فئتان، بعضهم ربما ليست لديهم المعلومات الكافية لكي تكون لهم المواقف الصحيحة، لكن الأعمّ الأغلب يعرفون جيداً، وربما يعرفون أكثر من غيرهم، لكنهم لا ينطقون بالحقيقة لأنهم مستفيدون ويدورون في الفلك نفسه مع «الحاكم»… وهم موزّعون على فئات عديدة، إذ بينهم سياسيون ومصرفيون وإعلاميون ورجال دين… والأهمّ أنّ بينهم أعضاء المجلس المركزي لمصرف لبنان الذي يضمّ نواب الحاكم ومفوّض الحكومة لدى مصرف لبنان ومدير المالية العام والمدير العام لوزارة الاقتصاد، وقد مرّت فترات لم يكن هذا المجلس مكتملاً، فيما السياسة المالية والنقدية هي نفسها في كلّ الحالات، مما يعني أن لا تأثير يُذكر لنواب الحاكم لا في السابق ولا اليوم، وهم الذين يتقاضون مبالغ خيالية كرواتب شهرية أو تقديمات ومكتسبات لا حصر لها.
لذلك فإنّ «الحاكم» يتحمّل المسؤولية الأساسية في ما وصلنا إليه، وقد أتى تعيينه في منصبه عام 1993 من ضمن مشروع أوسع وأكبر كان يُخطَّط له في المنطقة كلها، وتمّ وضع سياسة اقتصادية ومالية ونقدية تتناسب مع ذلك المشروع، وهو ما كان يُعرف يومها بـ «مسيرة السلام مع العدو الإسرائيلي» وما يتبع «السلام» من تأثيرات على كلّ دول المنطقة لا سيما على المستوى الاقتصادي.
لم يستمرّ الأمر كثيراً، إذ سرعان ما تبيّن أن كلّ ما يُحكى عن ذلك «السلام الموعود» هو مجرّد أوهام، خاصة بعد مقتل رئيس الوزراء في دولة العدو اسحق رابين عام 1995.
لم يؤدّ ذلك إلى مراجعة السياسة الاقتصادية والمالية في لبنان، بل انّ المعنيين تمسّكوا بها وعاندوا في مواجهة كلّ الأصوات الداعية إلى التغيير، فوصلت الفوائد على سندات الخزينة إلى نحو 43 في المئة، مما أرهق الخزينة العامة وأدخلها منذ ذلك الحين في الحلقة المفرغة… الاستدانة لتسديد الفوائد ثم المزيد من الاستدانة لتسديد المزيد من الفوائد…!
ولأنّ الأوضاع تفاقمت إلى حدود لا تُحتمل، تفتّقت عبقرية القائمين على السياسة المالية، وأبرزهم آنذاك فؤاد السنيورة ومعه «الحاكم» طبعاً، فأتوا بمعادلة جديدة أسموها «هيكلة الدين العام»، وهي عبارة عن خطة تؤمّن القدرة على الاستمرار في السياسة نفسها من دون تغيير إلا من حيث الشكل، إذ ضمّنوا الموازنة العامة للعام 1998 بنداً يجيز للحكومة الاستدانة بالعملات الأجنبية، لأنّ الفوائد عليها أقلّ من تلك التي تدفعها الخزينة على السندات بالليرة اللبنانية، لكن الأقلية النيابية يومها كشفت الألاعيب وفضحت المستور أمام الرأي العام ليتبيّن أنّ «الهيكلة» المزعومة ليست سوى دَيْن جديد يُضاف إلى الدين العام الآخذة أرقامه بالارتفاع يوماً بعد يوم.
أيضاً لم تمضِ سنوات قليلة حتى عاد الفراغ يخيّم على الخزينة العامة، ولم يكن أمام المعنيين إلا الاستعانة بالخارج، فكان مؤتمر «باريس 1» عام 2001 الذي لم يكن ناجحاً كفاية، ليتبعه مؤتمر «باريس 2» عام 2002، الذي أتى بقروض بلغت قيمتها 4,4 مليار دولار.
لم تخدم هذه المليارات كثيراً لأنّ الاستنزاف مستمرّ والدين العام متراكم في دوامة تسديد الفوائد ثم الاستدانة من جديد لتسديد الفوائد…! فأتت الحاجة إلى مؤتمر دولي جديد كان يُفترض أن يُعقد عام 2005 لكنه تأجّل بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري في شباط، واستعيض عنه باجتماع المجموعة الأساسية لدعم لبنان في نيويورك في أيلول ٢٠٠٥، حيث جرى التعهّد بدعم الحكومة اللبنانية الجديدة ومساعدة لبنان على خفض دينه إلى مستويات مقبولة ليتمكن من تحقيق النمو ومستويات أفضل من العدالة الاجتماعية وتعزيز الاستقرار السياسي.
بعد ذلك أتت حرب 2006 التي حقق فيها لبنان انتصاراً كبيراً على العدو الصهيوني، الذي ألحق بعدوانه الهمجي الكثير من الدمار والخراب في البلد.
وفي العام 2007 عُقد مؤتمر «باريس 3» الذي قدّم الدعم السياسي لحكومة السنيورة آنذاك، أكثر مما قدّم للبنان ما يحتاجه من دعم مالي واقتصادي. وبقيت الحاجة إلى هذا الدعم قائمة إلى ما بعد مؤتمر الدوحة في أيار 2008 الذي أقرّت فيه تسوية سياسية جرى بموجبها انتخاب رئيس جديد للجمهورية ثم تشكيل حكومة جديدة، لتأتي معها مرحلة التسويات في المنطقة، لا سيما بين سورية والسعودية في ما عُرف يومها بمرحلة الـ «سين سين» التي استفاد منها لبنان كثيراً، حيث تسجل أرقام ميزان المدفوعات أنّ نحو 57 مليار دولار دخلت إلى لبنان بين العامين 2008 و 2011، وأن نسبة النمو في العامين 2009 و 2010 بلغت نحن 9 في المئة.
مع الأسف الشديد لم يستفد لبنان من تلك المرحلة، ولم يوظّف مسؤولوه تلك الإيجابيات في قطاعات حيوية وتنموية مفيدة، خاصة في الكهرباء وفي بعض نواحي البنية التحتية، بل ذهبت كلّ الأموال في الدوامة نفسها، دوامة الدين والفوائد.
بعد العام 2011 تراجع كلّ شيء، حيث تأثر لبنان ولا يزال بشكل دراماتيكي بالأحداث التي حصلت في أكثر من بلد عربي، وتأثر بشكل خاص بما حصل في سورية كونها الرئة التي يتنفس منها الاقتصاد اللبناني.
مرّت السنوات والأزمات تزداد وتتفاقم إلى أن عُقد مؤتمر «سيدر» في باريس عام 2018، الذي أسفر عن وعود بتقديم قروض ومساعدات للبنان بقيمة 11 مليار دولار، لكن لم يُنفذ شيء من ذلك حتى اليوم لأن الوعود والالتزامات كانت مشروطة بإصلاحات لم تقم بها الحكومات اللبنانية المتعاقبة، وذلك لأسباب متعددة أولها الأزمات السياسية المتلاحقة التي يعيشها لبنان في السنوات الأخيرة، والتي جعلت حكوماته حكومات تصريف أعمال أكثر منها حكومات فعلية قادرة على اتخاذ القرارات اللازمة.
اليوم نحن أمام وضع مشابه لما كان يحصل في السابق، إذ أمامنا خيارات علينا اتخاذ القرار بشأنها لإنقاذ بلدنا وشعبنا من هذه الأزمة الخانقة التي جعلت أكثر من ثمانين في المئة من اللبنانيين يعانون من الفقر وينتظرون المساعدات والإعانات من هنا وهناك.
الأزمة اليوم معقدة وكبيرة، ولا يجوز التعاطي مع الحلول باستخفاف بل المطلوب أن نكون جميعاً جديين وندرس كلّ الخيارات ولا نقفل الأبواب أمام أيّ حلّ يفيد بلدنا وناسنا، لأنّ مَن يريد حصر الأمور بيد صندوق النقد الدولي إنما يريد إبقاء القديم على قِدمه، لأنّ حلول صندوق النقد هي من الطبيعة نفسها للسياسات التي أوصلتنا إلى ما نحن فيه. أما ما نحتاجه فعلاً فهو موجود في سلة المشاريع الحيوية والتنموية المعروضة علينا من قبل إيران وروسيا والصين…