ثمار التطبيع المسمومة من كامب دافيد إلى اتفاقات إبراهام «1»
سعادة مصطفى أرشيد _
لما كان الهدف المصري- الساداتي من حرب تشرين 1973 هو تحريك الوضع السياسي لا تحرير الأرض، وذلك تمهيداً للدخول في عملية سياسية تفاوضية مع «إسرائيل»، فقد كان من الطبيعي أن تتفوّق سياسات التخطيط والتنظيم المعتمدة على العلم، على سياسات الفرد والارتجال، ويحصل في نهايتها الاختراق «الإسرائيلي» الأول للجبهة العربية، بانخراط مصر في عملية سلام بائسة، انتهت إلى تطبيع مصر مع «إسرائيل» وخروجها من ساحة المواجهة، أنهت الاتفاقيات حالة الحرب بين الدولتين، وأوصلت إلى انسحاب «إسرائيلي» من مناطق كانت احتلتها من مصر عام 1967 في سيناء وبعض جزر برزخ السويس، وإعادتها إلى السيادة المصرية «وإن كانت سيادة منقوصة»، ولكن الرئيس المصري في حينه، اعتبر ذلك تحريراً، وعملاً عبقرياً كما روّج له إعلامه في حينه.
اعتقدت مصر السادات، أو أراد لها السادات أن تعتقد أنها بتخففها من أحمال الصراع مع «إسرائيل»، وأكلاف المجهود الحربي، بأنه سوف تتوافر لها الامكانات للنهوض بثورة تنموية اقتصادية، تدخل البلاد في حالة من الرفاهة ورغد العيش، وتجعلها دولة من دول العالم الأول، خاصة بعد أن ارتبط السلام مع «إسرائيل» بسياسات نيو- لبرالية، أطلق عليها السادات اسم الانفتاح على العالم الغربي، الذي شمل الاقتصاد كما السياسة، الأمر الذي استلزم ضرب القطاع العام، ونقل السيطرة على الاقتصاد من دائرة عمل الدولة إلى دائرة خصخصة الاقتصاد.
لاحقاً لمصر وبعد تأخر بلغ عقد ونصف العقد من الزمن، وصلت قيادة منظمة التحرير إلى ما سبق للسادات أن وصل إليه، فتمّ توقيع اتفاقات أوسلو عام 1993 وملاحقها السرية، التي وإن عرف بعض منها، إلا أنّ بعضاً آخر لا يزال مجهولاً ويقع في دائرة التكهّنات، بموجب تلك الاتفاقيات، وكما يرد في مقدماتها ونصوصها، أن اعترفت القيادة الفلسطينية بدولة «إسرائيل» وبمشروعيتها، مقابل أن اعترفت «إسرائيل» بقيادة منظمة التحرير بصفتها ممثلاً للفلسطينيين، لا بحقوق الشعب الفلسطيني، ووافقت على السماح بعودة القيادة النابذة للعنف والإرهاب «الكفاح المسلح» للضفة الغربية وقطاع غزة، ومعهم عدد تحدّده وتحدّد مواصفاته ودوره ووظيفته «إسرائيل»، على أن يتمّ التفاوض لاحقاً بخصوص مصير أراضي الضفة الغربية في غضون خمس سنوات، الأمر الذي لم يحصل حتى اليوم، أي بعد مرور قرابة الثلاثة عقود.
افترضت قيادة منظمة التحرير أنها بتوقيعها على تلك الاتفاقيات، وبقبول «إسرائيل» التعاطي معها، أنها حققت أهداف الثورة الفلسطينية المعاصرة، وأنّ هذا المدخل كفيل بتحويل اتفاقية الحكم الذاتي الضيق والمحدود إلى دولة، ثم أن عقلية الفهلوة والشطارة، سوف تجعلها تتلاعب بالطرف الآخر، كما كانت تفعل مع دول عربية، والأهمّ أنها تستطيع أن تفرض وجودها وتحقق مصالحها بصفتها من يستطيع التنازل ومنح الشرعية لأي عملية تطبيع عربي أو إسلامي لاحقاً مع «إسرائيل»، باعتبارها ممراً إلزامياً بالاتجاهين.
سريعاً بعد توقيع اتفاق أوسلو، لحق الأردن بركب السلام ذاته، فوقعت اتفاقية وادي عربة، التي علق عليها في حينه رئيس الوزراء الأردني عبدالسلام المجالي: أنّ هذه الاتفاقية قد ضمنت وجود الأردن كوطن نهائي للأردنيين، هكذا اعتقد القرار الأردني، وأنّ الدولة أصبحت بمنجى من أن تصبح دولة فلسطينية، أو حصة الفلسطينيين في ما تبقى من اتفاقيات ووعود مطلع القرن العشرين التقسيمية «سايكس– بيكو» ووعد بلفور».
رأت الدولة الأردنية، أنها بذلك سوف تتخفف من أحمال فلسطين ومسألتها التي قد أصبحت شأناً فلسطينياً خاصاً، مكتفية بدور لها في رعاية المقدسات في مدينة القدس، وأنها ستكون صندوق بريد يعمل في الاتجاهين ما بين الدول العربية التي تريد أن تتأخر في اتخاذ قرار تطبيعها مع «إسرائيل»، ومحطة ومعبر لمن أراد أن يتعجّل ويلتحق بركب التطبيع، إضافة إلى ما يمكن أن يحققه لها السلام من أرباح على شكل مشاريع مشتركة واتفاقيات ترانزيت ودعم مالي مباشر، ما يجعل من قدراتها الإقليمية تزداد، وكذلك قدراتها المالية التي ستنعكس رفاهاً وسلاسة لمواطنيها الناعمين بفوائد السلام.
هكذا توهّمت الأطراف الثلاثة التي انخرطت في عملية السلام والتطبيع، بأنها ستحققه، وأثبتت عقود من التجربة بؤس وتهافت ذلك الاعتقاد، فالمصري أصبح أكثر جوعاً وعطشاً، وازدادت مستويات التفاوت الاجتماعي وما يتبعها من تناقضات، والحياة الأردني مثلها، متراجعة في رفاهها، عطشى تشتري ماءها من شريك السلام، ولكن زيادة عن ذلك غاب أمل الأردن مع غياب حزب العمل «الإسرائيلي» الذي وقع معه اتفاقية وادي عربة، وصعود اليمين الجابوتنسكي الذي لا يرى من وظيفة للأردن إلا أن يكون الحلّ للفائض البشري الفلسطيني، وها هي الأردن تتعثر اقتصادياً واجتماعياً ووجودياً. أما في فلسطين، فلم يعد لدى المواطن الحزين أيّ أمل في إقامة الدولة، اللهم إلا بعض المنتفعين من استمرار طرح هذا الشعار، وتحوّلت طموحاته نحو الحصول على تصاريح للدخول إلى أراضي 1948 ليعمل في المستوطنات والمصانع اليهودية هناك.
ولكن، ما الذي أرادته دولة الإمارات ومن ورائها البحرين من التطبيع ومعاهدات السلام مع «إسرائيل»؟ فلا توجد للدولتين أراضٍ محتلة تريد إعادتها لسيادتها، كما في الحالة المصرية، ولا أحد يهدّد وظيفتها أو يريدها وطناً لآخرين، كما في حال الأردن، ولا أحد يطعن في شرعيتها ويحتلّ أرضها كقيادة منظمة التحرير، فلماذا أقدمت الإمارات والبحرين على ما أقدمتا عليه…؟