لبنان محكوم باللاءات… والكلّ في إجازة مفتوحة حتى إشعار آخر
} علي بدر الدين
سئل مؤسس دولة سنغافورة يوماً لي كوان، ماذا فعلت لبنائها وتطويرها وازدهارها، فأجاب: «أنا لم أقم بمعجزة، فقط قمت بواجب تجاه وطني، فخصّصت موارد الدولة للتعليم، وغيّرت مكانة المعلمين من طبقة بائسة إلى أرقى طبقة في سنغافورة، المعلم هو من صنع المعجزة، وهو من أنتج جيلاً يحب العلم ويتسلح بالأخلاق، بعد أن كنا شعباً يشتم بعضه في الشوارع».
أين لبنان اليوم من سنغافورة؟ وأين هي طبقاته السياسية التي حكمت وتعاقبت وأنتجت القوانين والتشريعات والمواثيق وصلاحيات السلطات وتحاصصت عليها طائفياً ومذهبيا ومناطقياً، وفصّلتها وفق قياسها ومصالحها وطموحها السلطوي، وجعلت منها قنابل موقوتة «غب الطلب»؟ أين هي من مؤسّس ورئيس سنغافورة، الذي بنى دولة عصرية طموحة، وهي بدلاً من بناء دولة المؤسسات والعدالة والقانون، أقامت «دولة» المزارع والميليشيات و»المافيات» والشبيحة، وحوّلت كلّ سلطة من سلطاتها الدستورية والتنفيذية والتشريعية «مقاطعة» أو «إمارة» داخل الدولة، تتصارع على ما تعتقده من صلاحياتها التي منحها لها الدستور، مع أنها عملياً، تتناحر وتتقاتل وتعطل مصالح الدولة والشعب والمؤسسات، من أجل مصالحها وحصصها ونفوذها.
أيّ طبقة سياسية ومالية هذه التي «شمّعت خيوطها» وقبضت على دولة «بأمّها وأبيها» وكلّ ما عليها وفيها، وصادرت سلطاتها وتمترست خلف قصورها وأبراجها وتحصيناتها، وأقفلت عليها «بالضب والمفتاح»، وزنّرتها بالقبضايات المدجّجين بالسلاح، وبالأسلاك الشائكة ودشم الإسمنت، كأنها أملاك خاصة لها ورثتها عن الآباء والأجداد، ولا علاقة لها بالدولة وأنظمتها وقوانينها المرعية الإجراء، او هي في حكم ذاتي منفصل عن الدولة والشعب، الذي يُقال في الدستور اللبناني، «إنه مصدر السلطات».
أين اهتمام الطبقة السياسية التي عبرت، أو التي تحكم لبنان منذ عقود طويلة، بقطاع التعليم خاصة الرسمي منه، على العكس فإنها بكلّ مكوناتها ومنظومتها قديمها وجديدها وحكوماتها المتعاقبة، تحاربه وتحرمه من كلّ حقوقه ومقوّماته، لصالح الإرساليات الأجنبية والمدارس الخاصة، لأنها إما هي ملك لها او شريكة فيها، أو تسمسر عليها، حتى إنهار التعليم الرسمي، وفقد مكانته وأصابه الوهن والشلل، بفعل شيطاني مصلحي ربحي مقصود، وعن سابق إصرار وتصميم، بهدف تعميم الجهل وتفشي الأمية وإلغاء الوعي وطمس المعرفة، ليسهل عليها ولها، التحكم بشرائح كبيرة من الشعب لتجهيله وتدجينه والسيطرة عليه وقمعه كلما أرادت…
للأسف نجحت هذه الطبقة في مشروعها الانهياري والتقويضي للتعليم الرسمي، حيث يبدأ المعلمون من اليوم بإضراب مفتوح يشمل كلّ مراحل التعليم الرسمي، مثلما نجحت في تحييد الشعب وتغييبه، وضمان سكوته، وسرقة حقوقه كاملة غير منقوصة، حوّلت المعلمين الذين لطالما كانوا الأمل المعوّل عليهم، إلى مجرد كتلة بشرية محرومة من أدنى حقوقها، يلاحقها الغبن والظلم والحرمان، لكسر إرادتها والحؤول دون استمرارها في استكمال رسالتها التربوية والتعليمية والوطنية، التي فعلاً جاعت كباقي الشعب اللبناني.
هل كان في سنغافورة في مرحلة بناء دولتها واقتصادها وعمرانها، وبعد ما أنجزه رئيسها، طبقة سياسية ومالية فاسدة ومرتهنة لمصالحها والخارج كالتي في لبنان؟ وهل كان فيها غيلان وحيتان وديناصورات كما عندنا، أفسدوا وسرقوا وطغوا واحتكروا على عينك يا شعب وعلى مرآك ومسمعك يا دولة، بالتضامن والتكاتف والتواطؤ، ولا زالوا يتحكمون ويحكمون منذ ثلاثة عقود من دون إنقطاع، (وحده القدر غيّب بعضهم) ولا يجرؤ أحد على اتهامهم ودعوتهم لكف أياديهم وأذاهم عن الشعب وحقوقه وأمواله، أو أن يقول لهم، كفاكم ما وصلتم إليه من ثراء فاحش وتسلط ونفوذ، اتركوا الشعب يعيش بأمان وسلام.
هل يوجد حاكم لمصرف رسمي في هذه الدولة أو غيرها، كحاكم مصرف لبنان، الذي تحوّل إلى حاكم للدولة وماليتها وللسلطة، التي هي شريكته ومتواطئة معه، وتغطيه وتحميه وتنوّه بما «أنجزه وفعله» بالمال العام والخاص، وقد أفلسوا معاً الخزينة وراكموا ديون لبنان، وسطوا على أموال المودعين في المصارف، وتاجروا وما زالوا بالدولار، حتى «فطسوا» العملة الوطنية التي باتت في الحضيض وفي أدنى مستوى قد تصل إليه عملة في أيّ دولة، والشعب يعاني تداعياتها، فقراً مدقعاً ومجاعة غير مسبوقة، حتى باتت تثير شفقة المجتمع الدولي وصندوق نقده وبنكه ومؤسّساته.
أما هذا الشعب فحدّث عنه ولا حرج، ليته فقط يكتفي بشتم بعضه، هذه «الفضيلة» تجاوزها منذ زمن، واستبدلها بتطوير الوسائل والأساليب بلوغاً الى تفاقم الصراع ورفع منسوب التخاطب بنكهة طائفية ومذهبية وعنصرية، وإلى خوض معارك وحروب مدمّرة وقاتلة. بعضه يفسد ويسرق ويضحي بذريعة «حماية» طائفته ومذهبه ومنطقته و»ولي نعمته»، مع أنه يعلم جيداً وبالأدلة وعلى المكشوف، مَن نهب أمواله ومَن أفقره وجوّعه وعياله، ومَن هجّره وتركه يعاني ويحتضر، ولا يداويه حتى بحبة مسكّن، بل يشبعه يومياً وعوداً وكذباً ونفاقاً وحقدا ًوكراهية، و»يحك» غرائزه وعصبياته ليكون مستعداً دائماً للمواجهة الكبرى.
الأسوأ في هذا الشعب أو في بعضه وربما معظمه، (الله أعلم ونحن منه) إصراره على المضيّ قدماً في خياراته السياسية والانتخابية لإعادة انتخاب وإنتاج الطبقة السياسية ذاتها، مع أنه يكتوي بنارها وظلمها واستبدادها.
أيّ شعب هذا الذي فقد النخوة والمروءة حتى أنه لا يدافع عن نفسه وحقوقه، على الأقلّ حقه في العيش بأمان وكرامة واكتفاء.
لا يمكن الرهان على الشعب لا الآن ولا في الغد، ربما الذي بعده مع جيل جديد، ما دام هو الصامت الأكبر على ما آلت إليه اوضاعه التي يُرثى لها، والذي لا يريد أن ينتفض على واقعه المزري، ولا على حكامه الذين سدّوا عليه كلّ منافذ الحياة والعيش والأمل والأمان والسلام.
يحضرني قول للإمام السيد موسى الصدر «إنّ مشكلة لبنان أنّ أقزاماً تقلدوا الحكم فيه، وجعلوا من هذا الوطن الكبير صغيراً على شاكلتهم».
نعم، لبنان حالياً، متروك ساحة للفيلة، لا فرق إن اتفقوا او اختلفوا، لأنّ الثمن مدفوع سلفاً من خزينة الدولة وأموال الشعب، وهو يعاني ما لم يعانه شعب آخر، الدولة معطلة، والحكومة معلقة جلساتها، المؤسسات مشلولة، والإدارات فارغة واشتاقت لموظفيها وللمواطنين، القطاعات الاقتصادية والإنتاجية والسياحية تنهار وتتهاوى، الشعب عاطل عن العمل، وخزينة الدولة خاوية ومنهوبة، وأموال المودعين في المصارف مهرّبة، والمصارف تنهب المودع وتعمل كالمنشار، و»الحاكم» يمارس سلطته على السلطة والشعب والمؤسسات، ويسرح ويمرح ويصول ويجول ويقرّر ويعمّم، من دون حسيب أو رقيب أو مساءلة، لأنّ تجار السلطة والمال والاقتصاد والسياسة في «جيبه الصغير» مع كلّ ملفاتهم السوداء. في حين أنّ بعض قوى الطبقة السياسية وسلطتها ومنظومتها يطمئن الشعب، بأنّ حال لبنان يبقى على حاله والقديم على قدمه، إلى ما بعد الأعياد، لأنّ من «حق» هذا البعض أن يأخذ إجازة طويلة يقضيها مع عائلته خارج لبنان، ومن «حقه» أن يتنفس ويرقص ويفرح، بعد معاناة الزيارات والجولات والتصريحات والوعود الكاذبة التي أتخمت فيها بطون الفقراء.
كان الله بعون اللبنانيين، لأنّ الآتي أعظم وأخطر…