مستقبل العلاقات اللبنانية الخليجية بعد استقالة قرداحي…
د. جمال زهران*
جاءت استقالة الوزير جورج قرداحي، لتمثل ضربة قاصمة لأصحاب المبادئ المجردة التي ترتكز على الشرف والعزة والكرامة، والاستقلال والاعتماد على النفس والمصلحة العليا، وكلّ القيم الإيجابية التي تجعل المتمسك بها، شخصاً متوازناً، ومجتمعاً ذات سمعة جيدة، ووطناً يعطي الأولوية لهذه النوعية من القيم والمبادئ. كما جاءت الاستقالة لتظهر العديد من الاختراقات الخارجية تدخلاً في شؤون داخلية، تعارضها كلّ المواثيق الدولية (الأمم المتحدة – الجامعة العربية، وغيرهما).
فالتدخل في الشأن الداخلي بهذه الصورة السافرة، أمر غير مسبوق. فإصرار المملكة السعودية ومعها عدة دول خليجية – وليست كلها طبعاً – على إقامة وعزل وزير في حكومة لم تمض على تشكيلها عدة أسابيع، وتدعو الدول الخليجية لمساندتها في ذلك، ثم المضيّ في قطع العلاقات مع الدولة اللبنانية واستدعاء السفراء، وفرض الحصار، حتى يتمّ تنفيذ إرادتها تحت الضغوط، وهو ما يعدّ اعتداءً على الدولة اللبنانية، خارج نطاق الشرعية الدولية أو الإقليمية.
وقد ورد على لسان جورج قرداحي، سواء في المؤتمر الصحافي الذي أعلن فيه عن استقالته، أو ما ورد في أحاديثه في الإعلام بعد الاستقالة، عدة أمور هي:
ـ أنه صمد أمام الضغوط عدة أسابيع، المطالبة باستقالته، حتى تمّ إظهار أنّ الرئيس الفرنسي سيقوم بجولة خليجية في زيارة مهمة للمملكة السعودية، وسيتدخل لديها لفكّ الحصار على لبنان وعودة العلاقات السعودية مع لبنان، وأنّ الاستقالة ستساعده على التوصل إلى حلّ الأزمة، ولو تأخر عن تقديمها، سيتحمّل تداعيات الأزمة!
ـ أنه اتصل بالسيد سليمان فرنجية المسؤول عن ترشيحه للوزارة، واتصل بالحلفاء، ليأخذ رأيهم في الأمر، وعرض الاستقالة عليه، فكان الردّ هو أنهم يتركون له اتخاذ ما يراه مناسباً، ففهم أنهم موافقون ضمناً على الاستقالة، وأنه لو كان الأمر غير ذلك، لأصرّوا على عدم استقالته، ولم يرفعوا الغطاء السياسي عن تأييده ودعمه!
ـ أنه خشى أن يتمّ تحميله انفجار مرفأ لبنان، وكلّ المصائب التي تحلّ على لبنان في حالة تمسكه بعدم الاستقالة!
ـ كشف أيضاً عن استدعاء ميقاتي (رئيس الوزراء) له، ومطالبته بالاستقالة لتسهيل مهمة ماكرون (الرئيس الفرنسي) في زيارته للسعودية!
لا شك أن مثل هذه الكلمات التي وردت على لسان قرداحي، تؤكد على حقيقة التدخل الخارجي في الشأن الداخلي اللبناني، وستكون سابقة خطيرة في التاريخ اللبناني، نظراً لفجاجة ما حدث، وفجور السياسة في الإقليم العربي، حيث نذرت دول الثراء العربي (السعودية وأخواتها)، نفسها، لتوظيف ما يمتلكونه من أموال، وما حباهم الله به من ثروات، في ممارسة غطرسة القوة في مواجهة دول الفقر العربي، ومن أهمّها (لبنان)، تلك الواحة الديمقراطية وسط إقليم يتسم بالوراثة السياسية والاستبداد والطغيان والفساد! كما أنّ هذه الدول أيضاً تستخدم أموالها لتدمير الدول العربية (سورية خير مثال) وعلى لسان المسؤولين في دول الخليج (حديث رئيس وزراء قطر/ حمد بن جاسم آل ثان). لقناة البي بي سي (B.B.C)، وكذلك تدمير اليمن، وتدمير ليبيا، وتدمير العراق، ومحاولة إبطال صوت الدول الإقليمية الكبرى، والتعبئة ضدّ دول جوار إقليمي، والتنسيق الخليجي الصهيوني، لإعادة هندسة الإقليم بما يتفق مع مصالح الحكم وضمان الاستمرار في كراسي الحكم!
ولا شك أنهم بهذه السياسات، يحققون هدفين هما: إعطاء العمر للكيان الصهيوني للاستمرار لحقبة ثانية، بعد أن كاد العمر الافتراضي لهذا الكيان أن يصل منتهاه! والهدف الآخر هو إعاقة مشروع الوحدة العربية للأبد، أو لأجيال قادمة، على خلفية أن كل شيء غير مضمون!!
فهل أحد يتخيّل، أنّ مستشار ولي العهد الإماراتي (محمد بن زايد)، يصرّح باستمرار، وأكد ذلك منذ أيام، أنّ أصغر دولة وهي الإمارات، لكنها الأغنى ثراءً، تمارس الدور القيادي بشكل مؤثر في السياسات الإقليمية والدولية، يفوق الدول الكبرى في المنطقة والتي زال نفوذها وتراجع وزنها!!
كما أكد على أنّ الحقبة الخليجية بدأت مع بداية القرن الحادي والعشرين، وستستمرّ طويلاً، وأشاد بدولة الإمارات الصغيرة مساحة وسكاناً، ولكن وزنها وتأثيرها، فاق الخيال!!
هذا هو المستشار السياسي لولي العهد الإماراتي ويدعي (د. عبد الخالق عبدالله)، فماذا يُردّ عليه، إلا أنّ حقبة الخليجيين لا تعدو أن تكون سوى قصور من رمال على شاطئ متحرك أصلاً! ويا ليت الخليجيون يمارسون دوراً في بناء دول أشقائهم العرب، وتحسين ظروف الدول ودعمها بما يرفع من مستويات المعيشة لأبنائها، بدلاً من الخراب الذين يتبنونه، تنفيذاً للمشروع الصهيوني الأميركي الهادف إلى تفتيت الوطن العربي، أكثر مما هو مفتت ومنقسم!! ولو وظفت هذه الدول ما لديها من ثروات في دعم شقيقاتها العربية، وعدم اللهاث وراء العدو الصهيوني، والكف عن التدخل التآمري ضدّ الدول العربية لإسقاط نظم، وحصار أخرى، وممارسة غطرسة القوة عليها، لكانت هذه الدول الخليجية إضافة للنظام الإقليمي العربي، وليست عبء عليه، كما هو حادث الآن بكلّ أسف!!
لذلك فإنّ حالة الإجبار على الاستقالة لوزير في حكومة لبنانية، هي من الممارسات البغيضة التي تمارسها دول خليجية تحت بند غطرسة القوة والمال، تدخلاً في شؤون داخلية في لبنان وغيرها، وهي ممارسات مُجرَّمة بحكم القانون الدولي، آن لها أن تتوقف مهما كانت العوامل والضغوطات التي احتسب لها من كافة القوى السياسية في مواقفها، إزاء أزمة لبنانية مرشحة للتفاقم. فقد حسبوها سياسياً، واقتصادياً، واحتسبوا لأعداد اللبنانيين المقيمين في دول الخليج ووضعهم ومصالحهم وعوائدهم التي يضخونها في الاقتصاد اللبناني، وتأثيرات ذلك في الانتخابات الآتية بعد عدة شهور. إلا أنّ الحسابات عندي هي الارتقاء بالممارسات السياسية، لتكون نصرة للمبادئ والقيم ومحورها: الشرف والكرامة والعزة والشهامة والاستقلال، وكما نقول في مصر: «تموت الحرة ولا تأكل بثدييها»، فذاك هو الأصل وما عدا ذلك فروع وهوامش.
وعلى اللبنانيين ألا ينسوا أنّ رئيس وزرائهم (الحريري)، احتجز في الرياض، لعدة أسابيع، وعذب وأهين، لولا تدخل حزب الله، وتدخل فرنسي/ مصري، لكن أين كان اللبنانيون؟! وماذا فعلوا آنذاك؟! ومن أسف أن أقول وأنا العاشق للبنان، إنّ مَن قبل الإهانة أول مرة، قبلها مرة أخرى، وهو ما ظهر باستقالة الوزير الشجاع جورج قرداحي، الذي اكتسب ثقة ومحبة الشعب العربي كله.
وختاماً فإنني أشك أنّ العلاقات السعودية الخليجية ـ اللبنانية ستعود بسابقتها بعد استقالة جورج قرداحي!! والله الشاهد، ومن وراء القصد.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية، والأمين العام المساعد للتجمع العالمي لدعم خيار المقاومة، ورئيس الجمعية العربية للعلوم السياسية.