خيارات لبنان من التأسيس الى الترسيم
} خضر رسلان
كثر الحديث في الآونة الأخيرة عن خيارات لبنان وهي في الحقيقة كلمة فضفاضة تحمل في طياتها عناوين متنوعة منها ما هو داخلي والتي من المفترض ان تشمل مفهوم النظام بكل مندرجاته ومرتكزاته وسلطاته التنفيذية والتشريعية والقضائية، اضافة الى الخيارات الوطنية ذات البعد الخارجي والتي تتعلق بالعلاقات مع الدول الشقيقة والصديقة والعدوة، فضلاً عن الخيارات الاقتصادية.
وفي قراءة للأحداث والمواقف الصادرة من أكثر من جهة سواء منها أكانت محلية او خارجية (ذات ثاثير داخلي) يتبيّن لنا بشكل جلي انّ نغمة الحديث عن خيارات اللبنانيين والتي تصدر من قبل منظومة كاملة تضمّ سياسيين واعلاميين وطامحين يختصرون مشهد الخيارات من خلال التصويب الدائم على سلاح المقاومة الذي هو بلا أدنى شكّ خيار راسخ وحقيقي ووازن لدى شرائح أساسية في لبنان وخاصة لدى الذين اكتووا بنار الاعتداءات والأطماع «الإسرائيلية» والتكفيرية.
في قراءة سريعة للتاريخ الوطني يمكن الاستنتاج ان الكيان اللبناني منذ نشأته تمّ التعامل معه على أساس انه ساحة تفرض عليه الخيارات، ولم يكن في تاريخه فاعلاً في الأحداث بل يتلقى الإملاءات وتحدّد له المسارات، الى ان استطاعت المقاومة ان تجعل من لبنان شيئاً آخر.
وهذه محطات وشواهد عن فرض الخيارات دون العودة للشعب اللبناني:
1 ـ خيارات فرنسية
أ ـ إنشاء الكيان اللبناني على شكله الحالي كان خياراً فرنسياً بعيداً عن إرادة شريحة كبيرة من اللبنانيين.
عام 1918 أعلنت عصبة الأمم فرض الوصاية على البلاد التي انتزعت من الدولة العثمانية، وبحسب اتفاقية سايكس ــ بيكو انتدبت فرنسا للإشراف على منطقة سورية التي كان لبنان من ضمنها.
وحينما طرحت فكرة الاستقلال ونتيجة للتركيبة الطائفية انقسم اللبنانيون الى فريقين: فريق مطالب بالاستقلال والانفصال عن سورية والتعامل مع فرنسا، وهذا الفريق غالبيته من الموارنة، وفريق آخر تتشكل غالبيته من المسلمين رفضوا الانفصال عن سورية.
وفي أيلول عام 1920 أعلن المفوض السامي الجنرال غورو الخيار الفرنسي في قيام دولة لبنان الكبير ومحدداً أيضاً علم الدولة حيث دمج علمي فرنسا ولبنان معاً، وفي 23 أيار من العام 1926 أعلنت فرنسا عبر مفوضها قيام الجمهورية اللبنانية.
ب ـ وخيار المفوض السامي الفرنسي دستور 1943
احتلال فرنسا للبنان رسّخ المناخات الطائفية والمذهبية حيث أقرّ ما يُسمّى «الميثاق الوطني» بعد الخروج الفرنسي من لبنان عام 1943 حيث تمّ الاتفاق بموجب هذا الميثاق الشفوي بين أول رئيسي جمهورية وحكومة بعد الاستقلال على ان يكون رئيس الجمهورية مسيحياً مارونياً ورئيس الحكومة مسلماً سنياً ورئيس مجلس النواب مسلماً شيعياً وذلك رغم غياب ايّ ممثل او زعيم عن الطائفة الشيعية.
الفقيه الدستوري الراحل الدكتور أدمون رباط اعتبر انّ ما حدث بالنسبة للدستور اللبناني أمر لا يتكرّر في ايّ من دساتير العالم، فقد كتب دستور عم 1926 على أساس انه نظام برلماني على نسق دستور الجمهورية الثالثة في فرنسا، إلا أنّ خيار المفوّض السامي الذي فرضه قبل ان يغادر عام 1943 هو الذي ساد حيث فوّض صلاحياته التي هي أشبه بصلاحيات «ملك» الى رئيس الجمهورية اللبنانية ومنها تشكيل الحكومة وتسمية رئيسها وإقالتها وحلّ المجلس النيابي وكذلك هو القائد الأعلى للقوات المسلحة
2 ـ خيارات أميركية
أ ـ التدخل العسكري الاميركي عام 1958
لعلّ أبرز ما في دراسة ثورة 1958 هي في كونها شكلت «بروفة» لحرب عام 1975، التي اشتعلت بسبب التناقضات الداخلية وسبب ذلك إدخال لبنان خلافاً لإرادة أكثرية اللبنانيين في حلف بغداد الأميركي الإنكليزي الفرنسي، والذي على اثره نشبت في الثامن من أيار من عام 1958 ثورة مسلحة دافعها اتهام الرئيس شمعون بالتعاطف مع مشروع أيزنهاور، ونتيجة لتخوّف الغرب من تحوّل لبنان الى ما يعارض مصالحها بادرت الى الإنزال فيه بقواتها العسكرية وذلك اتقاء لأيّ مدّ ناصري، واثر ذلك انتهت الثورة وتمّ انتخاب اللواء فؤاد شهاب رئيساً للجمهورية وجاءت هذه الأزمة لتعكس ارتباط لبنان مع محيطة الإقليمي.
ب ـ اتفاق 17 أيار عام 1983
برعاية وإشراف مباشر من الولايات المتحدة الاميركية تم فرض اتفاقية 17 أيار في العام 1983 بين لبنان والكيان الصهيوني في عهد رئيس الجمهورية الأسبق أمين الجميّل، وذلك بعد الاجتياح «الإسرائيلي» للبنان عام 1982 واحتلاله للعاصمة اللبنانية بيروت كثاني عاصمة عربية تحتلّ بعد القدس الشريف، وقد أراد العدو من هذه الخطوة فرض شروطه على لبنان، وعقد معاهدة صلح معه، وتحييده عن الصراع العربي «الإسرائيلي»، وإقامة حكومة لبنانية موالية له.
لم يجد هذا الخيار قبولاً لدى الغالبية من اللبنانيين الذين وصفوه بـ »اتفاق العار»، وتحت ضغط الرفض الشعبي، بادرت الحكومة اللبنانية ومجلس النواب اللبناني الى اعتبار هذا الاتفاق باطلاً، وقاموا بإلغائه.
ج ـ اتفاق الطائف 1989
على اثر انتهاء الحرب العراقية الإيرانية ونتيجة للدعم الغير محدود الذي تلقاه العراق مما جعل قواه العسكرية كبيرة من حيث العديد والعدة، وهذا مما لا يتناسب مع المصالح الأميركية و»الإسرائيلية»، وحيث انّ الاستراتيجية الأميركية تريد التفوق الدائم للكيان الغاصب فضلاً عن التوجه الى تعويمه ودمجه في المنطقة على غرار ما سيحصل لاحقاً من خلال مؤتمر السلام الذي عُقد في مدريد وتمهيداً لذلك كان لا بدّ من إزالة كلّ العوائق التي تحول دون تحقيقه، فكان القرار الأميركي بتدمير الدولة العراقية وإنهاء الحرب في لبنان من خلال إشرافها على توقيع وثيقة الطائف برعاية سورية ـ سعودية، وبالرغم من إيجابية إنهاء الحرب الأهلية فقد تمّ فرض دستور ووثيقة على الشعب اللبناني أسّست نظاماً طائفياً هشاً ولّاداً للفتن والقلاقل بين الحين والآخر.
د ـ الخيارات الاقتصادية
نتيجة للقرارات الأحادية الظالمة التي فرضت على لبنان بشكل عام وعلى كيانات وأفراد محدّدين فضلاً عن إلزام لبنان بالالتزام بمندرجات «قانون قيصر» الذي يفرض العقوبات على سورية، وهذا مما ترك آثاره السيئة على الاقتصاد اللبناني ولكن قمة الغلو والتسلط هو حين تمّ منع لبنان من الاتجاه الى الأخذ بخيارات اقتصادية عرضتها دول عدة أبدت جهوزيتها للمساعدة في قطاعات حيوية جداً. وهذا الأمر زاد في تفاقم الأمور تعقيداً، حصل هذا من دون ان تتجرأ معظم القوى اللبنانية على الأخذ بالخيارات البديلة، خوفاً من سيف العقوبات الأميركية المسلط.
هـ ـ ترسيم الحدود مع فلسطين المحتلة
ديبلوماسي غربي سبق ان زار لبنان أسرَّ الى احد مستقبليه انّ العقوبات المفروضة على لبنان والحصار الاقتصادي والأزمات الاجتماعية وهبوط العملة الوطنية اضافة الى التوترات المتنقلة بين منطقة وأخرى… مردّه الى الشروع في عملية ابتزاز لبنان وشعبه بغية الرضوخ الى الخيارات الاميركية «الإسرائيلية» التي تهدف الى ترسيم الحدود وفق الأجندة الاميركية التي تعمل على تمكين الكيان الغاصب من الاستفادة من أكبر قدر ممكن من الثروات الغازية والنفطية والتي هي وفق القوانين الدولية تدخل ضمن السيادة اللبنانية. وفي هذا الإطار أشار العميد أمين حطيط وهو الذي شغل موقع رئيس اللجنة اللبنانية العسكرية التي تحققت من الانسحاب الاسرائيلي في العام 2000، أشار الى انّ الاشكالية الاساسية المتعلقة بهذه العملية هي ان لبنان يلتزم وثيقة دولية أممية ويعتبرها مرجعية صالحة للترسيم مقابل «إسرائيل» التي تريد ان تكون الولايات المتحدة الاميركية هي المرجعية وهي المعروفة بانحيازها الكبير والشديد الى جانب «إسرائيل» وبالتالي يستبعد الوصول الى حلّ يرضي الطرف اللبناني.
3 ـ خيارات ملتبسة لأهداف خارجية
أبرز عناوين هذه الخيارات التي تمّ اعتمادها هو تحويل الاقتصاد اللبناني من اقتصاد منتج الى ريعي واعتماد سياسة الاقتراض وإغراق البلاد بالديون وفق أجندة مرسومة تفضي بالنتيجة الى قبول لبنان بتوطين اللاجئين الفلسطينيين مقابل إلغاء ديونه وحلّ مشاكله الاقتصادية.
4 ـ الخيارات الوطنية
استطاعت قوى المقاومة في لبنان إسقاط كلّ المحاولات التي كانت ترمي الى نزع هويته الوطنية وانتهاج خيارات تنسجم مع المنطق والتاريخ ومن أبرز هذه المحطات:
أ ـ إسقاط اتفاقية 17 أيار التي كانت تهدف الى إلحاق لبنان في المعسكر الصهيوني.
ب ـ طرد المحتلّ الصهيوني من معظم الأرض اللبنانية وفرض معادلات رادعة عليه.
ج ـ اعتماد خيار المقاومة كضامن وحيد لحماية لبنان وحقوقه المائية وثرواته النفطية والغازية.
هـ ـ اعتماد خيار المواجهة العسكرية في مواجهة غزوات التكفيريين التي هدفت لإلغاء الكيان اللبناني.
و ـ الدفاع عن الخيارات العربية التي يأتي في مقدمتها رفض التطبيع مع العدو الصهيوني والدفاع عن فلسطين قضية العرب المركزية.
إنّ الولايات المتحدة الأميركية ومن خلال كلّ الخيارات التي استخدمتها حتى الآن لم يعد أمامها إلا تغيير موازين القوى وذلك عبر الانتخابات المقبلة والرهان على انفضاض حلفاء حزب الله عنه، وتقليب الشعب اللبناني وتالياً بيئته عليه والشيء المضحك هو لعب دور المنقذ للبنان، بانتهاج سياسية كيّ وعي الشعب اللبناني، والترويج الى انّ مقولة انّ المقاومة هي سبب الانهيار، وأنّ التطبيع وتدوير الزوايا بالتنازل عن جزء من الثروات الوطنية هو السبيل الأنجع للإنقاذ، إلا أنه وفق منطق التاريخ، فإنّ واشنطن التي لم تستطع تحقيق مآربها في ما مضى، والتي لم يبقَ أمامها من الخيارات سوى الرهان على الانتخابات النيابية، ستغرق مرة أخرى في أوهامها وانّ شعب المقاومة وبجميع أطيافها سوف يريها فصلاً جديداً من فصول خياراتها الفاشلة.