موازين قوى جديدة ومكاسب روسية إيرانية
ناصر قنديل
– إذا أمكن تسمية المرحلة الجديدة في موازين القوى على الساحة الدولية بمرحلة ما بعد أفغانستان، فان من سمات هذه المرحلة، العجز الأميركي عن المضي قدماً في أي تصعيد للحفاظ على المواقع المحققة في المرحلة السابقة أو وهم القدرة في خوض مواجهات لتحقيق مواقع جديدة، عندما يصل الأمر إلى مرحلة فرضيات الانزلاق إلى الحرب، ومن السمات أيضاً، تجذر الشكوك بين واشنطن وحلفائها سواء الشركاء في حلف الناتو أو شكوك الشركاء في الملفات الإقليمية في ثبات واشنطن وفي صدقية الناتو، ومن السمات أيضاً أن خصوم واشنطن، وخصوصاً روسيا والصين وإيران، يدركون نقاط ضعفها، ويبنون سياساتهم على السعي لتحقيق مكاسب سواء بفرض أمر واقع عليها أو على حلفائها الإقليميين، أو بوضع سقوف افتراضية لأهداف أي عملية تفاوض يسعون لتتويجها بتحقيق مكاسب.
– قدمت واشنطن نموذجاً عن كيفية تعاملها مع المخاطر التي تفرضها تحديات المواجهة خلال تجربة حزب الله مع سفن كسر الحصار، وتهديده عملياً بنقل قدرة الدرع التي يمتلكها في البر إلى البحر، وما يمكن أن يترتب على ذلك من مواجهات في مسار بحري تحتاج سفن كسر الحصار لسلوكه من إيران إلى لبنان، مروراً بالخليج ومضيق هرمز وبحر عمان ومضيق باب المندب والبحر الأحمر، وصولاً إلى قناة السويس والبحر المتوسط، وما سيترتب على هذه المواجهات من مخاطر، فجاء الانكفاء الأميركي السريع والذهاب إلى الإعلان عن استثناء جر الغاز والكهرباء إلى لبنان عبر سورية من عقوبات قانون قيصر، ليكشف حجم الارتباك الأميركي في التعامل مع سلم المخاطر وفرضيات المواجهة.
– في توقيت متزامن دخلت إيران وروسيا خط المواجهة والتفاوض، كل في ساحة منازلة حيوية واستراتيجية في الحساب الأميركي، فروسيا تفرض إيقاع التحدي في الملف الأوكراني، عبر تسليح ودعم حلفائها في شرق أوكرانيا، وبالتوازي فتح باب التفاوض تحت شعار طلب ضمانات رسمت لها سقفاً يشكل مصدر قلقها الدائم، وهو تعهد حلف الناتو بوثيقة قانونية ملزمة غير قابلة للتراجع بعدم ضم أي من دول شرق أوروبا التي تعتبرها روسيا ضمن المدى الحيوي لأمنها القومي، ووضعت روسيا في يد خطر التصعيد في أوكرانيا، وفي يد أخرى تهديد بيلاروسيا بوقف مسار الغاز إلى أوروبا، وهي تقول إن الحل السياسي متاح للملف الأوكراني لكن هذه المرة بشرط تقديم الضمانات المطلوبة لروسيا.
– تذهب إيران إلى التفاوض حول ملفها النووي، تحت عنوان عودة واشنطن إلى الإتفاق الذي انسحبت منه أحادياً بصورة مخالفة للقواعد القانونية، والمطالبة برفع العقوبات الأميركية التي رافقت الانسحاب الأميركي من الاتفاق كشرط لعودة إيران إلى موجباتها وفقاً للإتفاق، واستبقت إيران قبول الدعوة للذهاب إلى التفاوض بفرض موازين قوى إقليمية ضاغطة على حليفي واشنطن الأساسيين، “إسرائيل” والسعودية، حيث ترفع قوى المقاومة في فلسطين سقف مواجهتها تحت عنوان مهلة تنتهي آخر الشهر، لتأمين فك الحصار عن غزة ووقف الاعتداءات على القدس سكانها ومقدساتها والتوصل إلى إتفاق لتبادل الأسرى، وإلا مواجهة خطر معركة شاملة أشد قسوة من معركة سيف القدس، بينما تواجه السعودية تصعيداً خطيراً في اليمن تعجز عن التعامل معه، سواء بشقه اليمني الذي تتسع رقعة التحديات فيه من مأرب إلى الساحل الغربي، أو ما يتصل بتوازن الردع في وضع العمق السعودي تحت النار كلما تصاعدت الغارات على العمق اليمني، بينما نجحت إيران بنقل ملفها النووي إلى مرحلة متقدمة، حيث فشلت كل محاولات التعطيل وفرض التراجع التي ادعى الإسرائيليون أنهم قادرون على تحقيقها، واعترفوا بأن أيران على رغم كل الاستهدافات التي أصابتها بالأذى، باتت أقرب من أي وقت مضى للحظة النووية الحرجة، بما تعنيه من امتلاك إيران لما يكفي لإنتاج سلاح نووي، وإيران تفاوض اليوم تحت عنوان إلغاء كل العقوبات، مقابل العودة إلى الإلتزامات، ولكنها تفتح قوسين لطلب ما تسميه ضمانات عدم تكرار الانسحاب الأميركي مرة أخرى.
– الضمانات التي تطلبها إيران تشبه تلك التي تطلبها روسيا، وعندما قال الأميركي إن الرئيس جو بايدن لا يملك- دستورياً- قدرة تقديم ضمانات، وضع الإيرانيون على الطاولة طبيعة الضمانات التي يقترحونها، وقالوا نحتفظ بأجهزة الطرد المركزي المتطورة وبكميات اليورانيوم المخصب التي انتجناها، وإذا خرجت أميركا مجدداً من الاتفاق نعود إلى حيث كنا عندما توصلنا إلى الاتفاق، وبعدما كان الأميركيون يطالبون بتدمير أجهزة الطرد المركزي الجديدة المتطورة التي تخرج عن نطاق ما يسمح به الاتفاق، وإتلاف كميات اليورانيوم المخصب المنتجة، بدأوا يناقشون في تخزين أجهزة الطرد واليورانيوم المخصب لدى الوكالة الدولية للطاقة الذرية، بينما تتقدم روسيا بمقترح أن تكون المكان البديل، وتناقش إيران بمقترح إبقائها في إيران تحت إشراف الوكالة الدولية.
– واشنطن في الخلاصة، بين ناري القبول بتقديم الضمانات التي تشكل مكاسب جديدة واستراتيجية لكل من روسيا وإيران، أو الذهاب إلى مواجهة لا تريدها في مرحلة ما بعد الانسحاب من أفغانستان.