الأرشيف الفلسطيني وكاميرا كرنيت مندل
} حمزة البشتاوي*
«لقد أنشأت فيكم كفلسطيني أمرين أولهما عقل المنظمة وهو مركز الأبحاث وعضلات المقاومة وهو جيش التحرير»، هذا ما قاله أحمد الشقيري عند تأسيس مركز الأبحاث الفلسطيني الذي تناولته ثعلبة الأرشيفات المخرجة (الإسرائيلية) كرنيت مندل في فيلمها الوثائقي (غنيمة الحرب) وتروي فيه قصة سرقة أرشيف مركز الأبحاث من بيروت رغم تمتعه بحصانة دبلوماسية تشمل مبناه ومحتوياته وبهدف الحماية أيضاً أعطت قيادة م.ت.ف رشوة بملايين الدولارات لميليشيا الكتائب اللبنانية لحماية المركز، ولكن ذلك لم يمنع المخابرات «الإسرائيلية» مدعومة بقوة عسكرية من الجيش «الإسرائيلي» تضمّ عشرات الجنود والآليات والشاحنات الكبيرة من اقتحام المركز ونهب محتوياته في عملية استمرّت لأيام عدة ولم تتوقف إلا عند ارتكاب «الإسرائيلييين» وعملاءهم مجزرة صبرا وشاتيلا حيث تقرّر وقف العملية التي شملت أربعة طوابق من الطوابق الستة العائدة للمركز.
وقال شهود عيان إنهم شاهدوا عشرات الشاحنات العسكرية «الإسرائيلية» تنقل المواد المنهوبة من المركز لتدخل في عهدة أرشيف الجيش «الإسرائيلي» وتطلع عليها لاحقاً كرنيت مندل، وخاصة الأفلام المصوّرة التي تروي جزءاً من تاريخ الشعب الفلسطيني على أرضه. وصنّفت كرنيت مندل كما المخابرات «الإسرائيلية» تلك الأفلام بأنها (غنيمة الحرب) و (مواد من بيروت).
وإذا كان الأرشيف الذي سرقوه يشكل جزءاً كبيراً من الأرشيف الفلسطيني ولكنه ليس الأهمّ كما قال لي الدكتور أنيس الصايغ بحضور سكرتيرته نجوى حيث أكد بصورة حازمة: لقد سرقوا الشيء الكثير ولكن ليس كلّ شيء. وهو العالِم بمحتويات المركز منذ توليه رئاسته عام 1961 ولغاية العام 1977 حيث سلم إدارته للشاعر محمود درويش حين زاره في القاهرة والتقاه بحضور الفنانة وردة الجزائرية التي كانت أول من بارك لمحمود درويش الذي بقي حتى العام 1978 مديراً للمركز ثم تولى إدارته صبري جريس حتى الاجتياح «الإسرائيلي» عام 1982.
ويتألف المركز من أقسام أبرزها الأرشيف والمكتبة والبحث والدراسات، وكان ينتج الكثير من الدوريات والدراسات والأبحاث رغم الاستهداف المتواصل له وللعاملين فيه حيث نفذت المخابرات «الإسرائيلية» عدة محاولات اغتيال للعاملين فيه ومنهم بسام أبو شريف وشريف الحسيني وأنيس صايغ… وكان آخر مرة استهدف فيها المركز عندما قامت ما يُسمّى ميليشيا حزب «القوات اللبنانية» بوضع سيارة مفخخة بثلاث قنابل أسفرت عن سقوط العديد من الضحايا وتضرّر أجزاء من المكتبة ومواد أرشيفية.
والشيء المهمّ الذي لا تعرفه المخرجة كرنيت مندل والمخابرات «الإسرائيلية» أنه قبل وقت قصير جداً من اقتحام الجيش الإسرائيلي للمركز تمّ سحب أبرز الوثائق والسجلات منه إضافة لما يمكن إخلاءه من مقتنيات، ومما لا يعرفونه أيضاً أنّ معظم الوثائق والسجلات محفوظة بنسخ مصوّرة كانت في بغداد (سُرق بعضها بعد الغزو الأميركي للعراق) كما أنّ عدداً كبيراً من محتويات الأرشيف الفلسطيني تمّ نقلها خلال حصار بيروت بسيارات دبلوماسية سوفياتية، كما ساهمت أيضاً السفارة الفرنسية بنقل مواد من الأرشيف ذات طبيعة ثقافية إلى عناوين حدّدتها م.ت.ف. إلى خارج لبنان. وقد نجح رئيس قسم السينما مصطفى أبو علي بنقل الجانب الأهمّ من قسمه للخارج.
من هنا فإنّ غنيمة الحرب التي يتحدثون عنها تشمل أشياء مهمة كالكتب والأفلام التي سرقوها وأعادوها لاحقاً مع صفقة لتبادل الأسرى ولكنهم لم يستطيعوا سرقة كلّ شيء فهناك ما بقي (بالحفظ والصون) وهناك ما رمي على الطرقات كما قال عبد الله الحوراني الذي كان من أبرز العاملين في المركز ورأى بأمّ عينيه في شوارع المنطقة القريبة من المركز أوراقاً وسجلات مرمية على الأرض ومن ضمنها سجل كبير فيه أسماء لأعضاء فصيل فلسطيني مع الصفة والراتب الشهري. ومن هنا فإنّ ما يسوقه فيلم غنيمة حرب عن إنجاز للجيش «الإسرائيلي» بسرقته للأرشيف الفلسطيني أمر مبالغ فيه يستهدف استعادة صورة الجيش «الإسرائيلي» في تلك المرحلة التي استطاع فيها الوصول إلى بيروت بمواجهة حالته الراهنة والمليئة بالهزائم المتكرّرة التي لحقت به وبصورته منذ العام 2000 ولات زال تلازم صورته وعقيدته القتالية التي تضرّرت إلى درجة لم تعد تنفع معها كاميرا كرنيت مندل واختراع البطولات المزيفة.