مقالات وآراء

وثيقة جديدة للبنتاغون: تبرير ديمومة الإنفاق العسكري

}  د. منذر سليمان وجعفر الجعفري

 «نعيش الآن في عالم متعدد القطبية». توصيف جوهري أطلقه رئيس هيئة الأركان الأميركية المشتركة مارك ميللي، مطلع الشهر الحالي، وبعد يومٍ واحدٍ من إعلان وزارة الدفاع الأميركية إصدارها وثيقة «مراجعة الموقف العالمي»، استجابة لطلب الرئيس جو بايدن، لرسم ملامح المرحلة المقبلة لرقعة انتشار القوات العسكرية الأميركية حول العالم (موقع وزارة الدفاع على الانترنت، 2 كانون الأول/ ديسمبر 2021).

الوثيقة بحدّ ذاتها ليست بهذه الأهمية الاستراتيجية، بحسب الخبراء العسكريين، لكنها تمثّل تمهيداً لمضمون «استراتيجية الدفاع الوطني»، التي ستصدر لاحقاً الشهر الحالي، والتي صدرت آخر مرة في العام 2018، في عهد الرئيس السابق دونالد ترامب.

 في جوهرها، تمثّل الوثيقة المقبلة خلاصة «رؤية» الرئيس بايدن وأعوانه للتمايز عن إرث سلفه في الأمن القومي، تُرجمت سابقاً بحرصه على نشر وثيقة «إرشادات مرحلية لاستراتيجية الأمن القومي» في شهر آذار/ مارس الماضي.

 خلت الوثيقة المعلنة من التفاصيل والخطط الاستراتيجية، للمحافظة على سريّتها كما يتردّد، وجاءت ثمرة «جهود مكثفة مشتركة بين مجلس الأمن القومي ووزارة الخارجية والوكالة الأميركية للتمنية الدولية ومكتب مدير الاستخبارات الوطنية»، كما أنها تأتي عند «نقطة انعطاف رئيسية مع زيادة تركيز الوزارة (البنتاغون) على الصين باعتبارها تحدياً سريعاً لنا». (مارا كارلين، نائبة وكيل وزارة الدفاع للشؤون السياسية، 29 تشرين الثاني/ نوفمبر 2021).

 كان لساحة «الشرق الأوسط» اهتمام متدنًّ بأولويات الوثيقة، نظراً إلى تعديل الأولويات الاستراتيجية الأميركية، أوضحتها السيدة كارلين بأنّ لدى بلادها «مسؤوليات عالمية، وهو ما يتطلب منا إجراء تغييرات مستمرة لوضعنا في الشرق الأوسط». إذن، التوجه السياسي الأميركي في المدى المنظور يتميّز بتقليص الوجود، وما يرافقه من نفوذ في المنطقة.

وحتى لا نبقى في دائرة العموميات، نستشهد بتصريح لمسؤول شؤون الشرق الأدنى في مجلس الأمن القومي الأميركي، كيرت كامبل، قائلاً إنّ «المبادرات الأشدّ أهمية» بالنسبة إلى الإدارة الأميركية تتمحور حول «انخراط أوسع مع مجموعة دول آسيان»، في جنوب شرق آسيا، والتركيز على ما سمّاه «الخطر الصيني». تكمن أهمية تصريحه في الأول من الشهر الحالي في أنه صدر بعد انقضاء شهر على مشاركة الرئيس بايدن في قمة للدول الأعضاء في «مجموعة آسيان».

 وإمعاناً من استراتيجيّي الولايات المتحدة، والهيئات المشاركة في إعداد وثيقة البنتاغون في تظهير القوة الأميركية، أوفد الرئيس جو بايدن فريقاً رفيع المستوى برئاسة مجلس الأمن القومي إلى «إسرائيل»، قبل أيام معدودة، للتداول بشأن «قضايا الأمن العالية الأهمية». بعبارة أخرى، تكرار «التزام الولايات المتحدة بأمن إسرائيل»، كما درجت عليه ديباجة السياسة الرسمية.

 ولمزيد من التوضيح للتحركات الأميركية الراهنة، نقلت صحيفة المال والأعمال البالغة التأثير في القرار الأميركي، «وول ستريت جورنال»، عن مصادرها الخاصة، أن «البنتاغون ينوي تعزيز موارده وإدخال تحسينات على المطارات العسكرية والبنى التحتية الأخرى في القواعد الأميركية في جزيرة غوام واستراليا لمواجهة الصين»، لكن لن «نشهد تعديلات جوهرية في رقعة انتشار القوات العسكرية تمهيداً لمواجهة بكين، وفي الآن عينه، ردع روسيا ومكافحة الإرهاب في الشرق الأوسط وإفريقيا» («وول ستريت جورنال»، 29 تشرين الثاني/ نوفمبر 2021).

 وأضافت في مكان آخر أنّ الانسحاب الأميركي من أفغانستان حرم واشنطن منصة انطلاق رئيسية لمواجهة «التهديدات الإرهابية وجمع المعلومات الاستخبارية، الأمر الذي دفع البنتاغون إلى عدم إجراء تعديلات جوهرية على انتشار القوات الأميركية في المنطقة وفي أوروبا».

 يُشار في هذا الصدد إلى قرار الرئيس بايدن إلغاء مفعول قرار سابق لخفض عدد القوات العسكرية الأميركية في ألمانيا إلى 2500 عنصر، وتمّ إبلاغ كلّ من ألمانيا وبلجيكا أنّ الولايات المتحدة عازمة على إبقاء 7 مواقع (قواعد) عسكرية في البلدين، أُرفق بنشر مقاتلات قادرة على حمل رؤوس نووية في الأراضي البولندية، وتجديد جاهزية وحدة نووية من قواتها العسكرية المرابطة في قاعدة «ماينز-كاسل» الألمانية، وتدعيمها بأسلحة أسرع من الصوت لاستهداف مراكز القيادة والتحكم الروسية، ومنها صواريخ «دارك إيغل» بعيدة المدى، والتي «تستطيع إصابة موسكو في غضون 21 دقيقة ونصف»، بينما باستطاعة الصواريخ المنصوبة على الغواصات الروسية الوصول إلى الأراضي الأميركي في غضون 10-15 دقيقة، من دون احتساب الصواريخ الروسية الحديثة التي تحلّق بنحو 27 مرة أسرع من الصوت.

 تزامنت تلك الإجراءات، لزيادة رقعة الوجود العسكري الأميركي في أوروبا، مع توجهات الرئيس بايدن في قمة الدول الصناعية، قبل بضعة أسابيع، لشيطنة روسيا واتهامها بنشر نحو 114000 عسكري على الحدود المشتركة مع اوكرانيا، وإشاعة أجواء من الهلع بين صفوف حلفائه للاصطفاف ضد روسيا.

 في الشق السياسي والتعبوي، أفردت وسائل الإعلام الأميركية، والعربية الموالية لسياسات واشنطن، مساحات واسعة لنشر وثيقة البنتاغون، وتجاهلت الحلقة المركزية في تصريح رئيس هيئة الأركان. بل لم ينبس أقطاب معسكر الحرب الأميركي في الكونغرس، ومراكز الأبحاث الموالية، ببنت شفه بشأن الإقرار الصادم من أرفع سلطة عسكرية عن تراجع مكانة بلادها على المسرح الدولي. ومضى ميللي مستطرداً أن «العنصر الأول في الاستراتيجية (الأميركية) هو عودة التنافس بين الدول العظمى، الصين وروسيا والولايات المتحدة».

 عطفاً على وضوح رؤية ميللي بشأن التنافس مع الصين، في الدرجة الأولى، وخلوّ الوثيقة التي بين ايدينا من «إرشادات» عملية بعيدة عن الديباجة المعهودة في التصريحات الأميركية، فإنّ جوهر الصراع مع الصين، بحسب الخبراء العسكريين، هو في الشق الاقتصادي، وبعيداً كلّ البعد عن التمظهر العسكري في المياه والقواعد الآسيوية المختلفة، الأمر الذي يلمسه المرء بشكل جليّ في وثيقة البنتاغون بإغفالها التطرق إلى البعد الاقتصادي في العلاقة الثنائية مع الصين.

 قلق واشنطن من تفوّق الصين تقنياً يتجدّد بوتيرة متسارعة، وأشدّ ما تخشاه في المرحلة الراهنة هو نجاح الصين في إرساء المواصفات القياسية لتقنية 5G وتعميمها عبر العالم، بمعزل عن التأثير الأميركي، وأبرز ميّزاتها «إرساء الضوابط الأمنية في تطبيقات تلك التقنية» (نشرة «ديفينس وان»، 2 كانون الأول/ ديسمبر، 2021).

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى